الخميس 15 مايو 2025
يتخبط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حرب التعريفات الجمركية بين الانتشاء بقراره أو تجميدها أو التهديد بتصعيدها، بعد إقرارها في 2 أبريل/نيسان 2025، راسما ملامح الانعزالية الأمريكية الجديدة، بسياسة مراجعة الرسوم وتداعياتها على الاقتصاد العالمي وخطر تحولها لحرب تجارية عالمية. شكلت أساس رؤيته ل"أمريكا أولا"، وبوصلة توجه السياسات الاقتصادية والتجارية الأمريكية، وتخط معالم استراتيجياته لإعادة عظمة وقوة أمريكا.
يُغيّب سؤال المكاسب التجارية، بعد مرور أكثر من مائة يوم على عودته للبيت الأبيض، أسئلة تعزيز الحضور السياسي الأمريكي عالميا جراء هذه الانعزالية، وكعادة إدارة ترامب تنكشف ببطء محاور سياسته الخارجية، وعنوانها الأكبر الانكفاء ومراجعة التوجهات وإصلاح وزارة الخارجية على ميزان خفض التمويل والإنفاق والموظفين. استكمالا لهذا المسار، تسربت قبل أيام إلى الصحافة العالمية مسودة قرار صادر عن الخارجية الأمريكية، يعيد تقليص الحضور الدبلوماسي الأمريكي في الخارج، وتتصدر أفريقيا محاور هذا الانكفاء، لتلتحق بتداعيات قراراته التجارية، مؤشرة على بداية الانغلاق الأمريكي بعيدا عن القارة وقضاياها.
تدرس إدارة ترامب إغلاق ما يناهز 30 سفارة وقنصلية، وفق وثيقة داخلية صادرة عن وزارة الخارجية، بما في ذلك إغلاق عدد من السفارات والقنصليات بأوروبا وأفريقيا وآسيا وبالكاريبي، ستمثل ذلك انخفاضا بنسبة 10٪ من بعثاتها الدبلوماسية الخارجية. كما تقترح تخفيض الوجود المكثف الدبلوماسي في كل من العراق والصومال، وسارعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية إلى اعتبار هذه التقارير "مبكرة أو خاطئة بناء على وثائق مسربة من مجهول"، غير أن وزير الخارجية أعقبها بتأكيد تلك التسريبات، ونيته إجراء تغيرات جذرية ينتظر الإعلان عنها في الأيام المقبلة.
تقوم إدارة ترامب بخطوة استثنائية في تاريخ مؤسسة وزارة الخارجية، وإن لم تكن الأولى فقد سبقها قرار إغلاق وكالة USAIDI، وتجميد أنشطتها الإنسانية والتنموية، غير أنها متسقة تماما مع التوجهات والأجندة المعلن من قبله، فهي محكومة بسعي الرجل نحو تقليص حجم الاعتمادات المالية الأمريكية. تبدأ بإلغاء وتجميد أقسام ومناصب داخلية وتعويضها بأخرى، وتنتهي بتقليص الحضور الأمريكي الدبلوماسي خارجها، استكمالا لحربه الداخلية والخارجية التي لا تستحضر مكانة الحلفاء التقليديين، كما لا تبالي بالمرجعيات السياسية التقليدية الأمريكية إدارة وتعاونا وشراكات.
لا مبالغة في القول بأن تحركات ترامب تجسد طريقته للتصرف السياسي، إذ لا يكترث بالمهام التي تقوم بها القنصليات والسفارات، متجاهلا أنها من أدوات الجوهرية لتحرك الدبلوماسية، فحدود تفكيره لا تتجاوز نطاق الوفاء بتعهد المكسبات المالية
يتأكد إذن بأن الرؤية السياسة الجديدة لترامب ظلت وفية لمشروع "أمريكا أولا"، كما أنها تتقاطع مع فلسفته لإعادة ترتيب البيت الداخلي، بما يكفل توفير اعتمادات مالية يعتقد بأنها تضيع، رسمت ملامحها الأساسية وزارة الكفاءة الحكومية هذه الهيئة الاستشارية التابعة للمكتب البيضاوي، والتي يتولى صديقه إيلون ماسك، تهدف لتحديث الإدارة الأمريكية، وتعزيز كفاءة وإنتاجيتها، فتتولى خفض التمويل الحكومي لكافة الوكالات الفيدرالية بخفض الانفاق الحكومي وتسريح آلاف الموظفين الحكوميين. ووفق ما تسرب في الوثيقة يتحدد بأن الهاجس الأول تقليل الميزانيات المخصصة للوزارة، وخفض عدد الموظفين الحكوميين، وتتوسع لاقتراحات سابقة، تقضي بخفض ما يناهز 50٪ من إنفاق الوزارة، إلى تقليص حجم البعثات الدبلوماسية الخارجية.
لا مبالغة في القول بأن تحركات ترامب تجسد طريقته للتصرف السياسي، إذ لا يكترث بالمهام التي تقوم بها القنصليات والسفارات، متجاهلا أنها من أدوات الجوهرية لتحرك الدبلوماسية، فحدود تفكيره لا تتجاوز نطاق الوفاء بتعهد المكسبات المالية، في تناغم تام مع خلفيته كرجل أعمال يمارس السياسية بمنطق اقتصادي ربحي، والإيحاء بالنجاح في تحقيق حلم عودة أمريكية عظيمة بمنطق الضغوط الاقتصادية والصفقات.
قد يتحقق هذا الهدف الاقتصادي، إذ قدر البيت الأبيض أن سياساته، لاسيما الرسوم الجمركية، ستدر على الخزينة الأمريكية حوالي 600 مليار دولار سنويا، رغم شكوك الاقتصاديين حول صحة هذه التوقعات. لكنها سياسيا ودبلوماسيا ستخلف خسائر استراتيجية، لأنها ستنهي محاور التحرك الأمريكي السابقة، كما ستؤثر على مكاسبها الاستراتيجية. فضلا عن كسر أدوات تحركاتها الناعمة خارج حدودها، إذ تعتبر البعثات الدبلوماسية أهم أدوات المواجهة والحفاظ على التفوق.
تنبئ هذه المراجعة بتكريس سياسة الانغلاق الأمريكي على شؤونها الداخلية، وإعادة ترتيب حضورها الخارجي، الذي يتقاطع مع توجهاته بتعزيز الحمائية التجارية لتعزيز مكانتها اقتصاديا واستراتيجيا، وتجميد الانتشار العسكري خارج حدودها، ورؤيته لعالم بدون حروب. رسمت الرسوم الجمركية والحوافز المطروحة أمام راس المال للعودة إلى حدودها، غير أنها تستحضر سردية تقدير الصين الخطر والتهديد القادم، وأن الرهان إعادة ترتيب الدور الأمريكي، فلا ملامة من تعكير العلاقات مع الحلفاء الأوروبيون كما الأفارقة وغيرهم.
يتأكد عمليا أن أفريقيا لم تعد على رأس أولويات الإدارة الأمريكية، فقد برهن ترامب أكثر من مرة على هامشية اهتمامه بقضايا هذه القارة، إذ لا تحضر إلا كموضوع للسخرية والتهكم، كما أن قراراته إزاءها لا تتعدى حضرا للسفر، وتجميدا للأنشطة، وتعليقا المساعدات لدولها. فالأولوية الخارجية تركز استراتيجيا على محاور أخرى كشرق آسيا، كما أن تحركاته قائمة على إعادة ترتيب قائمة الحلفاء، فترسم الحرب على المكانة الاقتصادية وتحقيق المكاسب المالية أكثر من اهتماماته السياسية.
ترجمة لهذا التهميش، بالعودة إلى مراجعة الوجود الدبلوماسي الخارجي الأمريكي، حظيت أفريقيا بالنصيب الأكبر، لتشمل ستة سفارات، من أصل عشرة، مقترح إنهاء العمل بها؛ تتصدر مملكة ليسوتو القائمة، فهذا البلد الصغير القابع وسط جنوب أفريقيا، للمصادفة كان في صدارة مواجهتها بالتعرفة الجمركية الأعلى (تناهز 50٪)، وانتقالا إلى وسط القارة، رشحت دولتي أفريقيا الوسطى والكونغو، فيما اختيرت سفارتها بغامبيا غربا. وبشرق القارة، تم انتخاب دولتي اريتيريا وجنوب السودان، كبلدان مرشح تقليص الوجود الدبلوماسي بها، تلحق بهم إغلاق قنصليتين، بالكاميرون وجنوب أفريقيا، وتوصي المذكرة بإدماج ونقل مهامها إلى سفارات وقنصليات في دول مجاورة.
أفريقيا لم تعد على رأس أولويات الإدارة الأمريكية، فقد برهن ترامب أكثر من مرة على هامشية اهتمامه بقضايا هذه القارة، إذ لا تحضر إلا كموضوع للسخرية والتهكم، كما أن قراراته إزاءها لا تتعدى حضرا للسفر، وتجميدا للأنشطة، وتعليقا المساعدات لدولها
استكمالا للتوصيات بإعادة هيكلة التحركات الخارجية، بخفض عدد الموظفين والميزانية ونطاق عملياتها، توصي المذكرة بتقليص كبير أو إلغاء تام للسفارة الأمريكية في بغداد ومقديشو، وإن كتب لهذا الاقتراح التفعيل، فإنه سيعيد رسم مستقبل الصومال، حيث ستنعكس هذه الخطوة مباشرة على مسار مكافحة الإرهاب الأمريكية بالمنطقة. كما ستخلق وضعا كارثيا على مستقبل البلد، مع توسيع حركة الشباب لنطاق عملياتها بجنوب ووسط البلاد، دون إغفال مؤشرات سياسية من واشنطن توحي بإمكانية الاعتراف باستقلال صوماليلاند.
بدأ الرئيس ترامب ولايته الأولى بالسخرية من القارة ودولها، كما أعلن عن تخفيض الوجود العسكري بالمراجعة وسحب قواتها بغرب القارة، وفاء لتعهد بتقليص الوجود العسكري الأمريكي خارج حدودها. ولم تفلح محاولات الإدارة السابقة لبايدن لإعادة ترتيب محاورها، لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد والممتد بالقارة، إذ كانت في الوقت الميت ومحدودة التأثير، قبل أن يباغتها ترامب بعودته المثيرة للبيت الأبيض لاستكمال رؤيته السابقة.
لم تخرج الولاية الثانية عن التخبط في السياسيات والتوجهات؛ فقد حافظ الرئيس ترامب على السخرية من الدول الأفريقية، فوصف جنوب أفريقيا بأنها دولة فظيعة للبيض، كما اعتبر مملكة ليسوتو بأنها دولة "لم يسمع بها أحد من قبل". وانكفأ عن الانخراط في شؤونها، فما أكثر الحرائق هناك (السودان، شرق الكونغو، شرق أفريقيا، منطقة الساحل...) في دول حليفة للمعسكر الأمريكي. لكنه لا يبالي، وربما لا يستحضر تعقيدات الأوضاع بأفريقيا، فمنظوره لا يخرج عن ميزان التجارة والاقتصاد، فحيث التبادلات ضعيفة لا حاجة لمقاربة القضايا الأفريقية.
تتويجا لهذه الرؤية الاختزالية، فتحت إدارته المواجهة مع جنوب أفريقيا، بدأت بانتقاد قوانين ملكية الأراضي، فأثمر قراره إنهاء المساعدات الأمريكية لبيرتورتا، وفرض رسوم جمركية بقيمة 30٪، وانتهت بطرد السفير الجنوب الأفريقي على خلفية انتقاده للرئيس الأمريكي، دون أن يتمعن في مكانة بلده إقليميا ودوليا، ولا اعتبارات الشراكة التي تجمعهما، ومستوى التعاون الذي بوأ بلاده كثاني شريك تجاري لجنوب أفريقيا بعد الصين.
حافظ ترامب منذ اليوم الأول لولايته على توقيع أوامره التنفيذية الصادمة، ويتوقع أن ينضاف إليها الأمر بتقليص الوجود الدبلوماسي، وهو لا يتردد في توقيع مثل هذه القرارات. كما يتوقع أن تكون نتائج هذه الهيكلة وخيمة على مسار التقاطعات الأفريقية-الأمريكية، لينعكس سلبا على محاور الوجود الأمريكي بالقارة.
تتربع مؤشرات كثيرة راسمة معالم تراجع التأثير الأمريكي بالقارة الأفريقية ودورها الخارجي، بعد أن فكك الرئيس ترامب أدوات تحركها، فعلى المستوى الاقتصادي، جاءت الرسوم الجمركية التي همت أكثر من 50 دولة أفريقية مؤكدة لهذا الأمر، تؤازرها الشكوك حول فرص استمرار العمل بقانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا)، الذي ينتهي العمل به في سبتمبر/أيلول 2025.
فضلا عن ذلك، جاء قرار الانسحاب الأمريكي من الساحل، بإخلاء القواعد العسكرية هناك، أبرزها قاعدة أغاديز للطائرات بدون طيار، دون النجاح في تجديد التعاقد مع السلطات النيجرية، ليقلص آليات تحركاها على مستوى التنسيق الأمني، وجمع المعلومات الاستخباراتية. ويتوقع أن تغل خطواته بتقليص البعثات الدبلوماسية هوامش تحركات إدارته بالقارة، وتستكمل مسارات عمل الفاعلين الدبلوماسيين، ملحقة بقطع مجالات التأثير الناعم الأمريكي بالمنطقة، بعد مراجعته لآليات التحرك، ممثلة بتجميد العمل بالوكالة الأمريكية للتنمية.
ولأن ترامب ينظر بنظاراتي العجز التجاري المسجل بين بلاده والعالم، ومستوى العلاقات والمكاسب التجارية، وينحصر عمله على التخطيط لتخفيض العجز بأدوات اقتصادية وحمائية، وتوسيع مجالات الربح بالصفقات والضغط الاقتصادي. فهو حتما لا ينظر إلى "العجز الدبلوماسي" الذي تسجله بلاده، فقد وثقت تراجعا في عدد الموظفين بالهيئات الدبلوماسية بالقارة، بدأ في عهد الرئيس السابق، وسيؤزم الأوضاع باقتراح إدارته تقليص وجودها بالمنطقة، إذ سيتراجع دور الأمريكي لاسيما في مناطق كأفريقيا ليفتح مجالا للأخرين.
بدأ بعض القادة الأفارقة في التماهي مع مطالب ترامب حماية لمصالحهم، ولا يمانعون استعدادهم للتفاوض وفق رؤيته وصفقاته، فقد عرض الرئيس الصومالي حسين شيخ محمد على ترامب قواعد عسكرية جوية وبحرية، لاحتواء اعتراف واشنطن بصوماليلاند
يركز تفكير ترامب على منطق اقتصادي صرف، يستند على تحقيق المكاسب وإبرام الصفقات، وتتوسع محاورها إلى حلفائه، فقد وسع هامش ضغوطه على أوكرانيا للاتفاق على صفقة للمعادن، كما عززته صور الإذلال الدبلوماسي لزيلنسكي بالبيت الأبيض، لإرغامه على التوقيع مقابل الحصول على المساعدات العسكرية. فشعاره "لنبرم صفقة"، تردد صداه عند بعض الدول الأفريقية، فقد وردت تقارير عن مباحثات أمريكية مع الكونغو الديمقراطية لحل الأزمة مقابل إبرام صفقة المعادن.
على الوجه الآخر، بدأ بعض القادة الأفارقة في التماهي مع مطالب ترامب حماية لمصالحهم، ولا يمانعون استعدادهم للتفاوض وفق رؤيته وصفقاته، فقد اختارت زيمبابوي، من جانب واحد وكبادرة حسن نية، تعليق جميع الرسوم الجمركية الأمريكية، مستهدفة تجاوز إدراجها ضمن قائمة العقوبات الأمريكية منذ 20 عاما. كما عرض الرئيس الصومالي حسين شيخ محمد على ترامب قواعد عسكرية جوية وبحرية، لاحتواء اعتراف واشنطن بصوماليلاند، ولكسب رهانات داخلية في ظل تصاعد التحديات الأمنية والاقتصادية.
بالمقابل، ستشكل فرصة لباقي الفاعلين الدوليين لتوسيع هوامشهم، إذ على المستقبل القريب ستفتح هذه السياسات الترامبية أبواب المنافسة بينها، وتعمق حجم الاستقطاب بالقارة، لتقدم قراراته المتعاقبة، وأخرها المراجعة الدبلوماسية، فرصة للدول الأخرى أن تتحرك بالمنطقة كالصين، حيث سيفوق عدد بعثاتها نظيراتها الامريكية، كما سيفتح المجال أمام القوى الدولية كروسيا وتركيا وغيرها، لترسم ملامح علاقات وارتباطات جديدة مع دول القارة.
مهما يكن من أمر، يتأكد بأن القضايا الأفريقية خارج أولويات إدارة ترامب، المنشغلة برؤى جيوبوليتكية أخرى، والمنكفئة على ترتيب الداخل الفيدرالي، وكلها مؤشرات على انها بهذه الخطوات لن تجعل "أمريكا عظيمة" في تقديرهم، انما ستعكس على مستوى حضورها وقدرات بالقارة، لتترك فرصة للأخرين ليتبوأ المكانة في عالم يخشى الفراغ، ولكنها تفتح دائما قوسا للأفارقة، يحذر من الرهان على الخارج، ويدعوا لبناء القدرات المحلية وتعزيز التحركات الإقليمية للتصدي للتحديات وكسب الرهانات.