الخميس 5 ديسمبر 2024
يشغل الدين حيزًا كبيرًا باعتباره أيديولوجيا وأداة سياسية في صياغات السياسات الأمريكية الخارجية، ولعل أكبر تجلٍ لذلك في مقاربتها للقضية الفلسطينية، لاسيما منذ بداية تكون المشروع الصهيوني في المشرق الأدنى، فكريًا وعمليًا في القرن التاسع عشر؛ ولم تكن أيديولوجيات الفكر الأفروأمريكي (ذات التأثير المباشر في تكوين النخب السوداء قبل استقلال الدول الأفريقية) بمنأى عن هذه المقاربة.
إلى جانب أمثال إدوارد ويلموت بلايدن (1832- 1912) الذي قدم رؤى أفريقية استشراقية لفلسطين، ومجمل منطقة المشرق الأدنى، في مؤلفه الهام "من غرب أفريقيا إلى فلسطين" (1873)، فإن حضور قضية فلسطين وصعود المشروع الصهيوني بها ظل هاجسًا لدى أغلب رواد الأفريقانية. وإن لم يصل حد بناء هذه التصورات على معاينات وزيارات للمشرق الأدنى وأحواله (أو فلسطين تحديدًا)، إلا في حالات قليلة من بينها المفكر والفيلسوف الأفروأمريكي البارز آلان ليروي لوك (1885-1954)، الذي زار مصر وفلسطين والسودان (شتاء 1922)، وتحيز ضمنيًا للمشروع الصهيوني، بسبب نشأته في كنف مربين يهود تعود أصولهم لألمانيا، ساهموا في طبع تكوينه منذ طفولته. ثم ارتباطاته بعدد من رجال الأعمال اليهود في الولايات المتحدة، الذين تولوا طباعة عدد من منشورات "حركة نهضة هارلم"، وأنشطتها في عشرينيات القرن الماضي. إضافة إلى تمويل الإدارة البريطانية في فلسطين وعدد من أبرز تجار العاديات في أوروبا لرحلاته المشرقية، ضمن دائرة أوسع من نشاطه العملي والفكري.
كان من أهم ملامح مقاربة لوك "المشرقية" اعتناقه العقيدة البهائية، وفكرتها الرئيسة "وحدة الأديان" خلال زيارته لمعقلها في "جبل الكرمل"، وهو ما يحيل إلى تصور استكمال أفكار الإبراهيمية الحالية، التي تعمل دوائر أمريكية رسمية على ترسيخها في الشرق الأوسط، في السنوات الأخيرة، لدور البهائية بشكل أو بآخر، وأن مضمون "وحدة الأديان" أو تذويبها معًا هو من أهم أدوات السياسة والثقافة الأمريكية، بما فيها الأفروأمريكية بالغة التأثير في القارة الأفريقية حتى الوقت الراهن، وتصوراتها لتسوية قضية فلسطين، وتكوين "شرق أوسط جديد".
تبرز دعوات "الإبراهيمية" بشكل متكرر، في خضم الفوضى العارمة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها أحد أهم أدوات السياسة الأمريكية- الإسرائيلية في إعادة تشكيل المنطقة، وذائقتها الشعبية والرسمية. تجد استجابات خجولة تارة وحماسية تارة أخرى، على نحو يشي بقطع "الدعوة" خطوات حقيقية لتحقيق قدر كبير من أهدافها، كباب خلفي لتصفية القضية الفلسطينية (تاريخيًا وجغرافيًا)، وحرمانها من مكانتها التاريخية في الوعي الشعبي العربي.
تجدد هذا الجدل مع اشتباكات الانتخابات الأمريكية الحالية، ودعوة المرشح دونالد ترامب لمنح "الإبراهيمية واتفاقاتها" قبلة حياة، حال وصوله لمكتب الرئيس بالبيت الأبيض، وتبني منافسته المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس رؤية تتفق في غاياتها معه، بتأكيدها على حيوية تمتعها بهوية دينية إثنية مضطربة حسب تلميحات منافسها ترامب، ثم الانتماء لكنيسة الرب في أوكلاند، واختيارها في سن النضوج الانتماء للكنيسة المعمدانية الثالثة في سان فرنسيسكو، وهي أول كنيسة معمدانية سوداء في الولايات المتحدة، تأسست عام 1852، معروفة بصلاتها بفلسطين قبل قيام الدولة اليهودية، ثم دعم الأخيرة بكل السبل الممكنة.
كانت الولايات المتحدة تعنى تمام العناية بمشروع أقدم من الإبراهيمية، ويتفق معها في خطوطه العامة، ألا وهو البهائية في فلسطين، حيث استضافت في مدينة نيويورك تحديدًا العديد من مؤسسات البهائية ودعوتها، واستضافت "الدعوة البهائية" (بالتنسيق مع عدد من مسؤولي الإدارة البريطانية) في فلسطين عددًا من رموز الفكر والثقافة الأمريكية، كان من بينهم آلان ليروي لوك.
في المحصلة، يبدو أن فكرة وحدة الأديان (أو تداخلها وارتباطها)، وإعادة صياغة "الدين"، وفق مفهوم جديد (البهائية ثم الإبراهيمية في هذه الحال)، تظل حاضرة بقوة داخل المكون الأفروأمريكي (الذي تمتد تأثيراته ضمنيًا وسط نخب أفريقية لافتة)، وأنها ذات جذور عميقة داخله، باعتباره جزءًا أصيلًا من المجتمع الأمريكي بكل تناقضاته.
تمثل زيارة آلان لوك، رائد ما عرفت بنهضة هارلم وأيديولوجيا "الزنجي" الجديد، في عشرينيات القرن الماضي، إلى مصر وفلسطين والسودان (شتاء 1923)، وانطباعاته التي تركها عن هذه الزيارة، لاسيما في مسألة "وحدة الأديان" (المرادف الموضوعي للإبراهيمية)، واعتناقه "البهائية" في عقر دارها "بجبل الكرمل" في حيفا بفلسطين، تجسيدًا لكون الأيديولوجية الإبراهيمية وسابقاتها أداة سياسية بامتياز لتغيير خريطة العقل الشرق أوسطي، واستبدال أفكار التسامح والتفاهم الدينيين بغطاء ديني- سياسي، أقل ما يوصف به أنه قسري مشوه وبراجماتي.
ولد آلان لوك في فيلادلفيا، في 3 سبتمبر 1885، لأبوين هما: بليني لوك وماري هوكينز لوك (التي تبنت أفكار البهائية، وقدر من المعتقدات اليهودية، وكانت تحث لوك الابن على اعتناق البهائية). تعود جذور عائلة الأب إلى ليبيريا (المستعمرة الأفريقية التي كونها الأفروامريكيون في العام 1822 لتكون وطنًا للعبيد المحررين)، وعمل أبواه مبشرين في ليبيريا في تدريب وتعليم السكان السود المحليين، قبل استقلال البلاد عام 1847.
بذل لوك جهودًا مضنية في دراسة الصلات بين العرق والثقافة (كما في محاضرة بارزة في مسيرته لدى الأكاديمية الزنجية بواشنطن عن The Problem of Race and Culture (1921)، ومحاضرة أخرى هامة في هذا السياق تضمنت ملاحظاته التي وضعها خلال زيارته لمدينة الأقصر في مصر، بعنوان Notes Made at Luxor, Egypt, (1923)، بعد شهور قليلة من كشف مقبرة توت عنخ آمون، في فبراير/ شباط 1923 الذي أثار اهتمامًا عالميًا كبيرًا، وساهمت في تمويله جهات أفروأمريكية، واطلع لوك الذي اهتم بجمع قطع الآثار الأفريقية على المقبرة في حالتها الأصلية قبل توجهه إلى السودان لمعاينة قطع أثرية أخرى.
لم يقتصر اهتمام لوك بالدوائر الأفروأمريكية المعنية بالآثار المصرية، لكنه التحق بالجمعية الفرنسية للآثار الشرقية في القاهرة في العام 1927. وسرد جيفري س. ستيوارت (2018) جانبًا من ارتباط لوك بالمشرق العربي ومصر، ومفهومه عن البحر المتوسط الأوروبي، و"أفريقيا" والشرق الأوسط (عبر زيارته لحيفا في فلسطين ومقاربته للعقيدة البهائية "تلبية لرغبة والدته في ارتباط أوثق بها") في فصل خاص عن مصر، وهو فصل كاشف في مجمله عن رؤية لوك الكولونيالية / الاستشراقية التي تتسق مع ثقافته "المسيحية الغربية" بشكل واضح، حتى من باب نقد الأخيرة.
كان وصول لوك إلى الإسكندرية في مصر أول لقاء مباشر له بأفريقيا، إذ وصلها في الأسبوع الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 1922، وكان معنيًا بالأساس بمعاينة قطع مقبرة توت عنخ آمون (لانتقاء عدد منها لحساب تجار العاديات في أوروبا)، وغلف لوك مساعيه بتبنيه رؤية أنه رسول التوفيق بين الأعراق (السود والبيض في الولايات المتحدة بشكل محدد بداية).
واصل منذ مطلع القرن الماضي تطوير فلسفته وأفكاره، لتكوين أساس للتقارب بين الأعراق وإعلاء روح التسامح فيما بينها، وتقبل لوك فكرة نزعة التمرد لدى المجتمع الأسود تجاه الهيمنة البيضاء (المستندة لعنصرية في الولايات المتحدة مع اتباعه النهج المسيحي للمصالحة بين الجانبين. وكان لوك على قناعة أنه بروميثيوس العصر الحديث، الذي يمكنه استخدام النزعة الجمالية aestheticism لتكوين نسيج جديد من الصراع بين السود والبيض في الولايات المتحدة.
بناء على أفكار "النزعة الجمالية"، وتداخلاتها الأيديولوجية التي تملكت لوك، فإنه اعتبر أن البهائية تمثل حلًا للخلافات الدينية بين المسيحية واليهودية، ثم في الاشتباك مع الإسلام في فلسطين، وعلى سبيل المثال نشر الكتاب السنوي البهائي The Bahai World 1925-1926 نصًا وجيزًا ومهمًا للوك عن رؤيته للمعتقد البهائي وفي قلبه ما عرفت "بوحدة الأديان"، وهي سابقة تكررت في الإصدارات البهائية السنوية في العقود التالية حتى وفاة لوك. وبعد إسهابٌ واضح (قياسًا للنص المشار له) في التغزل بموقع الكرمل وبهاء عمرانه لاحظ لوك أن البهائية، التي اعتنقها حسبما ذكر لاحقًا، تمثل معتقدًا شرقيًا، وأن بجبل الكرمل "رؤية شرقية ملؤها سحره، وشاعريته، وروحانيته. ولم يخل المكان من الكآبة فحسب، بل استحالت صرامته شعرًا. ولا شك أن الشفاء من أمراض المادية الغربية يستقر هنا".
رغم أن أفكار "الزنجي الجديد" ونهضة هارلم استهدفت بالأساس مواجهة قوانين التفرقة العرقية في الولايات المتحدة، وتحقيق المساواة وكرامة الإنسان الأفرأمريكي هناك، فإن تمثيلات هذه الأفكار تجاه القضية الفلسطينية قامت بالأساس على تجاهل وجود شعب فلسطيني له تاريخه وحضارته على أرضه، لصالح تماهٍ تام مع السردية اليهودية- الصهيونية التي وجدت دعمًا سياسيًا وأيديولوجيًا وعمليًا داخل سياسات الولايات المتحدة، منذ منتصف القرن التاسع عشر (عبر مساعي ربط النشاط الاستعماري في غرب أفريقيا بالشمال الأفريقي والمشرق العربي ومن ضمنها الجهود الإرسالية الأمريكية كما في حالة بلايدن وغيره،) حتى أجواء حملات الانتخابات الأمريكية الحالية.