الأحد 16 نوفمبر 2025
على وقع جدل سياسي متصاعد وأزمة مستمرة بين الحكومة الفيدرالية والمعارضة، تتصدرها الخلافات حول آلية تنظيم الانتخابات بمستوياتها المختلفة، أعلنت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات – التي تثير شرعيتها اعتراضات واسعة من قبل المعارضة – تحديد 30 من نوفمبر/ تشرين الثاني موعدا لإجراء انتخابات البلديات في مقديشو، في أول تجربة من نوعها منذ 56 عاما، ما يجعلها محطة فارقة قد تُنهي عقودا من تعيين رؤساء ومديري إدارة العاصمة بقرارات سياسية، وتمهّد في الوقت ذاته لتنفيذ خطة الرئيس حسن شيخ محمود الرامية إلى تنظيم انتخابات عامة، وفق نظام "صوت واحد لكل مواطن".
أوضحت اللجنة أن 923,220 ناخبا سجلوا أسماءهم في إقليم بنادر، مؤكدة استعدادهم للإدلاء بأصواتهم لاختيار من سيتولى قيادة العاصمة، إلا أن هذا الإعلان أعاد إلى الواجهة الجدل حول إمكانية تطبيق العملية الانتخابية على أرض الواقع، في ظل رفض المعارضة ومقاطعتها الكاملة للاستحقاق. فضلا عن الشكوك المثارة بشأن نزاهة بيانات الناخبين المسجلين، نتيجة ما شاب عملية التسجيل من عشوائية وغياب للضوابط التنظيمية.
عززت طريقة تنفيذ عملية التسجيل الشكوك المثارة بشأن نزاهة بيانات الناخبين المسجلين، إذ كان من المشاع قيام قوات الأمن بتوقيف بعض المواطنين في الشوارع، واقتيادهم قسرا إلى مراكز التسجيل، لإجبارهم على إدراج أسمائهم في القوائم الانتخابية.
ورغم أن انتخابات بلدية مقديشو كانت مطلبا قديما لسكان العاصمة الذين عانوا طويلا من ضعف الخدمات العامة وارتفاع الأعباء الضريبية، فإن الواقع الراهن لا يبدو مهيّأً لإجراء انتخابات تعبّر فعليا عن تطلعاتهم، في ظل غياب الإمكانيات الفنية واللوجستية اللازمة، وهو ما يجعل هذا الاستحقاق مهددا إما بتأجيل جديد أو بإجرائه بطريقة لا تخدم مصلحة سكان مقديشو ولا مصلحة البلاد عموما.
فالواقع الحالي يبدو خاليا من المقوّمات الأساسية لأي عملية انتخابية حقيقية؛ فالأرضية السياسية والقانونية ما تزال غير مهيّأة، كما يغيب الزخم الشعبي والشعور بقرب استحقاق انتخابي فعلي، وهو ما انعكس في المقاطعة الواسعة من قبل الأحزاب السياسية والأطراف الفاعلة لإعلان اللجنة، في ظل غياب التشريعات التفصيلية التي تنظم العملية الانتخابية، وانعدام هيئة مستقلة للفصل في الخلافات التي قد تنشأ عنها.
ورغم أن قانون الانتخابات الذي أقرّه البرلمان العام الماضي نصّ على اعتماد نظام التمثيل النسبي، بحيث تُقدَّم قوائم مغلقة من قبل الجمعيات السياسية المسجَّلة، على أن يكون المرشَّحون الثلاثة الأوائل في النتائج هم الفائزين، فإن هذا القانون لم يحظَ بتوافق سياسي واسع، ليبقى حزب العدالة والتضامن – الذي يتزعمه الرئيس حسن شيخ محمود – الطرف الوحيد المتفاعل مع خطوات اللجنة الانتخابية وتحضيراتها، في وقت تواصل فيه بقية الأحزاب والشخصيات الفاعلة رفضها لشرعية اللجنة ومقاطعتها لإجراءاتها.
تبرز جملة من التحديات؛ أبرزها ضعف التحضيرات، وغياب التوافق مع المعارضة، وتنامي الشكوك حول نزاهة العملية الانتخابية، وهي عوامل قد تنعكس سلبا على هذا المسار، وتقود إلى نتائج عكسية
وفي سياق التحضيرات، صادق مجلس الوزراء في 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري على تصنيف درجات مديريات إقليم بنادر، استنادًا إلى قانون الانتخابات الذي يقسّم مديريات العاصمة إلى مستويين (أ) و(ب)، ويمنح الحكومة صلاحية تحديد تلك المعايير بناءً على مقترح من وزارة الداخلية والشؤون الفيدرالية والمصالحة، بما يشكّل مؤشرًا واضحًا على إصرار الحكومة الفيدرالية على المضيّ قدمًا في تنفيذ خطتها الانتخابية في مقديشو، في محاولة لتكريس واقعٍ انتخابي قبل حسم الخلافات القائمة مع قوى المعارضة حول شرعية اللجنة وآلية إجراء الانتخابات.
تمثل التحضيرات الجارية لانتخابات بلدية مقديشو اختبارا حاسما للحكومة الفيدرالية في تنفيذ رؤيتها الانتخابية؛ ففشلها في تمرير هذه الخطوة يعني عمليا تعثّر المضيّ قدما في الانتخابات الرئاسية والنيابية وفق النظام ذاته، ما سيجبرها على الرضوخ لمطالب المعارضة والدخول في مفاوضات جديدة حول آلية بديلة. غير أن هذه المفاوضات – إن جرت – قد تشكل في المقابل فرصة لإعادة بناء الثقة بين الأطراف السياسية، وضمان شمولية العملية الانتخابية واستقلاليتها، بما يعزز المشاركة الشعبية، ويقوّي شرعية المؤسسات المنبثقة عنها.
وراء السعي الحثيث للحكومة الفيدرالية لإجراء انتخابات بلدية مقديشو رهانات وحسابات سياسية متشابكة؛ إذ إن العاصمة ليست مجرد مدينة، بل تمثل مركز الحكم والمحرّك الرئيسي لعمل الحكومة الفيدرالية، كونها المدينة الوحيدة التي تُدار مرافقها الاقتصادية مباشرة من قبل الحكومة المركزية، حيث تذهب الضرائب والعائدات المحصَّلة فيها إلى الخزانة الفيدرالية، بخلاف بقية المدن والمناطق التي تُدار مواردها من قبل الإدارات الإقليمية، كما تشكل مقديشو القاعدة السياسية الأهم للرئيس حسن شيخ محمود وأنصاره، ما يجعلها الأرضية الأنسب لبدء تنفيذ خطته الانتخابية.
من هذا المنطلق، تسعى إدارة الرئيس محمود عبر هذه الانتخابات إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها اختبار إمكانية تطبيق نظام "صوت واحد لكل شخص" عمليا في العاصمة، باعتبارها النموذج الأولي لهذا النظام؛ فالتعثّر في تطبيقه في مقديشو سيجعل من الصعب تنفيذه في باقي مناطق البلاد، ما سيدفع إدارة الرئيس محمود نحو إعادة النظر في استراتيجيتها الانتخابية، وصياغة خطة أكثر واقعية وقابلة للتنفيذ.
إلى جانب ذلك، تمثل هذه الانتخابات فرصة سياسية مهمة للرئيس وحزبه "العدالة والتضامن" على المدى القريب والمتوسط؛ إذ إن نجاحها سيمنح الحزب نفوذا سياسيا متجددا داخل العاصمة، خصوصا في حال فوز مرشحيه بمقاعد المجلس البلدي. فالأعضاء المنتخبون سيحظون بشرعية إدارية مستقلة نسبيا عن الحكومة المركزية، ما يشكل نافذة تأثير مستقبلية للرئيس وحزبه، حتى في حال خسارته الانتخابات الفيدرالية المقبلة، باعتبار أن مقديشو هي مقر مؤسسات الدولة ومصدر الدخل الأهم للحكومة، الأمر الذي يمنحه أداة ضغط غير مباشرة على أي سلطة جديدة قد تخلفه.
يتردد الرئيس بين خيارين؛ السعي إلى توافق سياسي مع قوى المعارضة حول القضايا الخلافية، وفي مقدمتها آلية إجراء الانتخابات، أو المضي قدما في تنفيذ خطته الانتخابية على أرض الواقع
في جانب آخر، يسعى الرئيس محمود من خلال تسريع الانتخابات إلى احتواء المطالب المتصاعدة لإنشاء ولاية إقليمية في مقديشو، خصوصا من المقربين المنتمين إلى عشيرته، إذ إن عدم تقديم بديل سياسي مقنع يضمن تمثيل سكان العاصمة وإشراكهم في إدارة شؤونهم قد يُضعف قاعدته السياسية ويزيد التململ بين أنصاره، بما ينعكس سلبًا على مستقبله السياسي.
مقابل تلك الحسابات الرامية إلى تكريس خطته الانتخابية، وتعزيز نفوذه في العاصمة ومؤسساتها الاقتصادية والإدارية، تبرز جملة من التحديات؛ أبرزها ضعف التحضيرات، وغياب التوافق مع المعارضة، وتنامي الشكوك حول نزاهة العملية الانتخابية، وهي عوامل قد تنعكس سلبا على هذا المسار، وتقود إلى نتائج عكسية. إن أحادية القرار ومقاطعة القوى السياسية قد تعيق تحقيق أهداف الخطة، وتفتح الباب أمام مزيد من الانقسام السياسي، وتضعف ثقة الشارع في قدرة الحكومة على إدارة استحقاق انتخابي نزيه وشامل، ما قد يؤدي في النهاية إلى نسف الخطة برمتها، وإعادة الأمور إلى المربع الأول.
في ظل الحسابات السياسية التي تدفع إدارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى تسريع إجراء انتخابات بلدية مقديشو، وما يقابلها من تحديات تتمثل في مقاطعة الأطراف السياسية، وضعف الجاهزية التنظيمية والفنية، وغياب الزخم الشعبي والسياسي المفترض أن تحظى هذه العملية، يبدو أن المسار لم يعد محسوما بالنسبة للرئيس، مع مؤشرات متزايدة لاحتمالية تراجعه عن خطته الانتخابية، والبحث عن تسوية توافقية مع المعارضة مقابل تمديد ولايته الرئاسية.
يتردد الرئيس بين خيارين؛ السعي إلى توافق سياسي مع قوى المعارضة حول القضايا الخلافية، وفي مقدمتها آلية إجراء الانتخابات، أو المضي قدما في تنفيذ خطته الانتخابية على أرض الواقع، بدءًا من انتخابات بلدية مقديشو وصولا إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية وفق النهج ذاته منذ البداية.
الواقع الحالي يبدو خاليا من المقوّمات الأساسية لأي عملية انتخابية حقيقية؛ فالأرضية السياسية والقانونية ما تزال غير مهيّأة، كما يغيب الزخم الشعبي والشعور بقرب استحقاق انتخابي فعلي
وفي هذا الإطار، برزت تسريبات تفيد بأن الرئيس عرض على وسطاء سياسيين خطة تقضي بتمديد ولايته لعامين على الأقل، مقابل تعهده بعدم الترشح لولاية ثالثة، وإجراء إصلاحات في اللجنة الانتخابية، وإعفاء الحكومة الحالية تمهيدا لتشكيل حكومة توافقية، على أن يتولى الوسطاء التفاوض مع المعارضة حول تفاصيل المبادرة. ورغم عدم صدور أي تأكيد رسمي، فإن صحة هذه التسريبات – إن تحققت – تعكس محاولة واقعية للخروج من المأزق السياسي مع اقتراب انتهاء الولاية الحالية.
وبحسب هذه التسريبات، يعتزم الرئيس قريبا العودة إلى ولاية جوبالاند لاستئناف محادثاته مع حاكمها أحمد مدوبي، في محاولة لتسوية الخلافات القائمة، حيث يخطط للاعتراف رسميا بمدوبي حاكما للولاية مقابل عودة الأخير إلى المجلس التشاوري والتوافقات التي وقع عليها في السابق، بما في ذلك الخطة الانتخابية التي تتبناها الحكومة الفيدرالية، وذلك بعد زياراته إلى كينيا وإثيوبيا، الجارتين المؤثرتين بشكل كبير في ملف جوبالاند.
ومع كل ما سبق من تعدد الاحتمالات وعدم حسم المواقف، يبدو أن الرئيس محمود لم يصل بعد إلى نقطة الحسم بشأن إدارته للمرحلة الانتقالية، إذ لا يزال يسير على خيط بين التمسك بخطته الانتخابية أو الانفتاح على تسوية سياسية واسعة. ورغم أن الأيام والأسابيع القادمة ستكشف حقيقة نواياه وحدود تجاوب المعارضة، إلا أن ما هو مؤكد أن أي خيار سيتخذه سيكون له انعكاساته على مستقبل المشهد السياسي.