الاثنين 24 مارس 2025
قد يبدو عنوان "العامل العربي في تاريخ الصومال" لمن يعرف أن جمهورية الصومال الديمقراطية عضو في جامعة الدول العربية غريبا بعض الشيء. وقد يتساءل: كيف يمكن الحديث عن "العامل العربي" في حين أن جمهورية الصومال هي دولة عربية؟ هل هناك ما هو أكثر من "العامل العربي" في الهوية الصومالية؟
العامل العربي في تاريخ الصومال/علي حيرسي
تشكل العلاقة بين العرب والصوماليين نموذجًا غنيًا للتفاعل الثقافي والتاريخي المعقد، نظرا للتشابك الذي تعرفه هوية المنطقة؛ والتعقيد في هذا السياق، منتزع من مفهوم سوسيولوجي سكه إدغار موران؛ يقوم التعقيد على مبدأ ضبط العالم من خلال الاعتراف بتداخلاته وتشابكاته واختلالاته التي يستحيل تمثلها في قوانين أولية بسيطة. ففهمنا لقضية ما بهذا المعنى لا يمكن من خلال فهمنا لها حال كونها مستقلة، بل لا من تفهمها في حالة الترابط والتداخل والتشابك والتعقيد. من نفس المنظار، ننظر إلى العلاقة العربية الصومالية. ولهذه الغاية، سوف نتناول بالعرض والتحليل واحدة من أهم الأطاريح الجامعية الرائدة في هذا الباب، كان أعدها الباحث علي حيرسي تحت عنوان: "العامل العربي في تاريخ الصومال"، وهي رسالة دكتوراه غير منشورة، ولم تترجم إلى العربية منذ مناقشتها عام 1977 بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
يسلط علي حيرسي الضوء، من خلالها، على الديناميات التي صاغت هذه العلاقة العربية-الصومالية، مقدمًا سردية جديدة، يعيد فيها النظر في مجمل التفسيرات التي تميل نحو التبسيط، جاعلة من الصومال مجرد امتداد للثقافة العربية أو الإسلامية. خلافا للسرديات التقليدية السائدة، يرى حيرسي أن العلاقة بين كل من العرب والصوماليين كانت تبادلية تفاعلية، مما يجعل الأطروحة مدخلًا جديا لفهم العلاقة بين مركب الهويات التي اعتملت في تشكيل أمة قومية تتطلع لمستقبل طلائعي.
إلا أن الواقع السياسي ما ينفك يعيد صياغة هذه العلاقة، ضمن إطار جديد من المصالح المتبادلة والتحديات المشتركة. في هذا السياق، تظهر تساؤلات عما إذا كان "التبادل الدينامي" الذي أشار إليه حيرسي ما يزال قائمًا، أم أن العلاقة تحولت إلى شراكة مصلحية تخضع لديناميات مختلفة عما كانت عليه في الماضي.
على الرغم من كون انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربية عام 1974، كان بمثابة عربون على استمرار الروابط الثقافية والدينية، إلا أن العلاقة بين الصومال والعالم العربي، ما فتئت تشهد تغيرات جديدة، مدفوعة بالتحولات السياسية والاقتصادية، ما يجعل من هذه العلاقة موضوعًا مفتوحًا للنقاش والتحليل. وعلى كل حال، فإن هذه العلاقة المعقدة – كما أسلفنا - تظل نموذجًا حيويًا لفهم أهمية التعقيد في تشكيل الهويات الثقافية عبر التاريخ.
يُصرّح علي حيرسي في أطروحته بأن هدفه الأساسي هو تتبع مسار العلاقات العربية-الصومالية على مدى تاريخ طويل، مشيرًا إلى تأثيراتها المتعددة التي بدأت من عصور ما قبل الإسلام، واستمرت حتى العصر الحديث. ورغم كثرة الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، إلا أن حيرسي لا يركز في أطروحته على تحليل الهجرات العربية إلى الصومال من منظور ديموغرافي صرف، بل يسعى إلى تقديم قراءة نقدية، تعيد تقييم هذا التأثير من خلال تسليط الضوء على الأبعاد الثقافية والدينية لهذه العلاقة. على عكس العديد من الدراسات السابقة التي كانت تميل إلى تأكيد أهمية الهجرات العربية على الصومال على المستوى العددي، يرفض الباحث التفسير السطحي الذي يربط هذه الهجرات بتفوق ثقافي أو هيمنة ديموغرافية.
يُظهر الكاتب كيف أن العلاقة بين العرب والصوماليين كانت متشابكة ومعقدة، ولا يمكن اختزالها في مجرد تأثيرات أحادية. إذ إن الإسلام كان العامل الأبرز في تشكيل الهوية الثقافية والدينية للصوماليين، إلا أنه لم يكن العامل الوحيد، بل جاء في سياق تفاعل دينامي مع التقاليد المحلية والعناصر الثقافية الأخرى التي كانت موجودة في المنطقة. وبدلاً من التركيز على غزو ثقافي أحادي، يقدم قراءة تبرز التفاعل والتبادل بين الثقافات العربية والصومالية، ما يجعل هذه العلاقة أكثر توازنًا وتعددًا.
يتحدّى حيرسي من خلال هذه المقاربة النقدية العديد من السرديات التقليدية، التي كانت تحصر العلاقة بين العرب والصوماليين في إطار تأثيرات خارجية بسيطة على المجتمع الصومالي. فهو يسلّط الضوء على عملية التفاعل والتأثير المتبادل بين الطرفين، التي أدت إلى تشكيل هويات مشتركة ومعقدة، لا يمكن فهمها من خلال منظور واحد. إذ تعتبر أطروحته مدخلًا لفهم تاريخ العلاقة بين العرب والصوماليين باعتبارها علاقة تفاعلية متجددة، ساهمت في تشكيل نسيج اجتماعي وثقافي يصعب تصنيفه ضمن حدود أحادية.
تتوزع أطروحة حيرسي على تسعة فصول، كل منها يتناول بُعدًا أساسيًا من العلاقات العميقة والمتشابكة بين العرب والصوماليين. يبدأ الفصل الأول بعرض لمحة ثقافية عن الصومال المعاصر، حيث يسلط الضوء على التأثيرات العربية التي أثرت في نسيجها الثقافي المعقد. في الفصل الثاني، يعود بنا إلى القرون السابقة ليتناول العلاقات الدولية ما قبل الإسلام في القرن الأفريقي، موفرًا سياقًا تاريخيًا للروابط العربية الصومالية التي نشأت فيما بعد. أما الفصول من الثالث إلى السادس، فتستعرض هجرة العرب والشعوب الأخرى من جنوب غرب آسيا إلى صوماليلاند، مع رصد عملية انتشار الإسلام في أوساط الشعب الصومالي، كما تركز على الدور المحوري للتجار والمستوطنين العرب في صياغة الملامح الاقتصادية والسياسية في المنطقة حتى القرن الخامس عشر. في الفصل السابع، يعالج حيرسي فترة تراجع التأثير العربي بين عامي 1500 و1800، وهي مرحلة شهدت تدخلات استعمارية من البرتغاليين والعثمانيين، مما أحدث تغييرات جذرية في الواقع الاجتماعي والسياسي. ينتقل الفصل الثامن إلى العصور الاستعمارية وما تلاها، حيث يعيد استكشاف كيف أسهم الإسلام والقومية الصومالية في تجديد الروابط الثقافية والسياسية مع العالم العربي. وفي الختام، يقدم الفصل التاسع تلخيصًا نقديًا لنتائج الأطروحة، مُتِمًّا بتقديم تفسيرات جديدة للعلاقة التاريخية المعقدة بين العرب والصوماليين.
اعتمد حيرسي في دراسته على منهجية متعددة التخصصات، متسلحًا بمصادر تاريخية متنوعة، تتراوح بين كتب جغرافيين ومؤرخين عرب في العصور الوسطى، وبين التقاليد الشفوية الصومالية والمعالم الأثرية. كما استخدم التحليل اللغوي والدراسات الكمية لتشكيل صورة تاريخية، وتجاوز ما قد يكون غاب عن السجل المكتوب. وفي الوقت نفسه، يعترف بتحديات نقص المصادر المكتوبة الصومالية قبل اعتماد الأبجدية الموحدة في عام 1972، وهو ما يجعل من دراسته جهدًا مبتكرًا في سبر أغوار تاريخ المنطقة.
يرى حيرسي أن الهجرات العربية إلى أراضي الصومال كانت محدودة من حيث العدد، واقتصرت في معظمها على المناطق الساحلية والأطراف، لكنها رغم ذلك تركت أثرًا بالغ العمق على الصعيدين الثقافي والديني. لم تكن هذه الهجرات مجرد انتقال بشري بسيط، بل شكلت جسورًا حضارية عبّرت عن التفاعل العميق بين عالمين مختلفين: العالم العربي وثقافته الغنية بالإرث الإسلامي، والعالم الصومالي الذي يحمل في داخله روحًا أفريقية متجذرة. لم تُبنَ هذه العلاقة، على قوة ديموغرافية، وإنما على قوة التأثير الثقافي، حيث أثبتت أن التأثير الحضاري لا يحتاج دائمًا إلى أعداد كبيرة، بل إلى عمق في المعاني والأفكار.
أصبح الإسلام، من خلال هذا التفاعل، أكثر من مجرد دين، بل محورًا لإعادة صياغة الهوية الصومالية، حيث تم تبني الإسلام بوصفها عنصرا رئيسيا في تشكيل الثقافة الوطنية. ولم يكن هذا التحول مجرد تقليد للثقافة العربية، بل عملية انتقائية تفاعلية، دمج فيها المجتمع الصومالي العناصر العربية والإسلامية ضمن نسيجه الأفريقي، ليخلق هوية فريدة لا هي عربية بالكامل ولا أفريقية فقط، بل انعكاسٌ لتفاعل عميق بين الإثنين.
مع مرور الزمن، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعبت النهضة الإسلامية والحقبة الاستعمارية دورًا كبيرًا في إحياء الروابط العربية الصومالية. ومع انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربية، ظهرت هذه العلاقات التاريخية في سياقات جديدة، سياسية وثقافية. هذا التجدد لم يكن مجرد استعادة للماضي، بل إعادة تعريف للعلاقات ضمن معطيات العصر الحديث. وبذلك، أثبتت هذه الروابط أنها ليست مجرد تاريخ قديم، بل دينامية مستمرة قادرة على التكيف مع المتغيرات، مما يجعلها حاضرة بقوة في تشكيل الهوية السياسية والثقافية للصومال اليوم.
تعد أطروحة علي حيرسي "العامل العربي في تاريخ الصومال" دراسة أساسية تقدم رؤية دقيقة ومتوازنة ومتعددة الأبعاد للعلاقات العربية-الصومالية. فالاعتراف بمساهمات المهاجرين العرب الثقافية والدينية، لا يعني بوجه من الأوجه كون التاريخ الصومالي امتدادًا للحضارة العربية؛ لذا نجد الباحث يشدد على دور الشعب الصومالي في تشكيل هويته الخاصة التي تتميز بالمزيج الفريد من التأثيرات الأفريقية والعربية. كما يؤكد في أطروحته على أهمية دراسة هذه العلاقة في سياق أوسع، وهو التاريخ الأفريقي، معتبرًا أن الصومال يقع عند تقاطع العوالم الأفريقية والعربية، ما يمنحه هوية معقدة ومتنوعة.
ما يعزز مصداقية هذا التحليل هو استخدامه لمجموعة واسعة من المصادر، من بينها النصوص العربية في العصور الوسطى وكتب أدب الرحلة الأوروبية والتراث الشفوي الصومالي. ورغم أن اعتماده العرضي على الأساليب شبه التاريخية، مثل: الدراسات اللغوية وكتب الأنساب، قد يثير تساؤلات حول بعض استنتاجاته الافتراضية، إلا أنه – وكما يبدو - يستخدم هذه الأساليب بحذر ويعتمد عليها – فقط - لإلقاء الضوء على المجالات التي يتعذر فيها وجود مصادر تاريخية مباشرة. في الوقت ذاته، يتساءل حيرسي عن مدى تأثير العضوية الصومالية في جامعة الدول العربية على الهوية الصومالية السياسية والثقافية، مؤكداً أن هذا التفاعل يُظهر أبعادًا متعددة للهوية العربية التي لا تقتصر فقط على الصوماليين بل تشمل الدين والسياسة.
وفي الختام، لا شك أن هناك أعمالا علمية مختلفة تناولت العلاقة بين الصومال والعالم العربي، ولربما قدمت رؤى متباينة لوصف عوامل تشكيل الهوية الصومالية. إن أطروحة علي حيرسي تركز على العلاقات الثقافية والدينية بين العرب والصوماليين، مع تأكيده على استقلالية الهوية الصومالية، إلا أن كُتّابا آخرين ك ديفيد دي. لايتين وسعيد شيخ سمتر في كتابهما: Somalia: A Nation in Search of a State قد أظهرا اهتماما كبيرا بالبُعد السياسي لهذه العلاقة، حيث يعتبر الإسلام أداة لبناء هوية وطنية متمايزة للصوماليين في سياقهم الأفريقي والإقليمي. هذا الطرح يثير تساؤلات حول كيفية تفاعل الهوية الصومالية مع التأثيرات العربية، دون أن تتخلى عن جذورها الأفريقية العميقة.
من جهة أخرى، نجد كتاب "Islam in Somali History: Fact and Fiction" لمحرره علي جمعالي أحمد يضيف بُعدًا نقديًا مهمًا، حيث يعيد النظر في دور الإسلام كأداة لإعادة تشكيل الهوية الصومالية، مُبرزًا كيف أن هذه الهوية ليست مجرد نسخة مكررة للثقافة العربية، بل هي تركيب ثقافي متفرد يعكس التفاعل بين التأثيرات الأفريقية والعربية. في هذا السياق، يطرح تساؤلًا أساسيًا: هل كانت العلاقة بين الصومال والعالم العربي تكاملية بقدر ما كانت تفاعلية؟ أم أنها حملت في طياتها هيمنة ثقافية تم طمسها تحت غطاء الدين؟
إن مقارنات كهذه، بين أطروحة حيرسي وهذه الأعمال الأخرى، تفتح أمامنا أبوابًا لفهم أعمق للعوامل التي شكلت الهوية الصومالية، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية. ورغم أن بعض استنتاجات حيرسي قد تثير نقاشًا إضافيًا، فإن منهجيته الدقيقة والتحليل العميق الذي قدمه، جنبا إلى جنب مع أعمال أخرى مثل تلك التي أشرنا إليها، تسهم بشكل كبير في توسيع نطاق فهمنا للتفاعلات بين الثقافات التي أثرت في بناء الهوية الصومالية.