السبت 8 نوفمبر 2025
لم يعد الخلاف بين رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود تفصيلاً عابراً في مشهد القرن الأفريقي. ما بدأ كشد وجذب حول الموانئ والتدريب العسكري تحوّل خلال عامين إلى مسار صدامي مفتوح، تحكمه حسابات نفوذ إقليمي قاسية، وتراكم ضغائن شخصية لا تقل أثراً. في قلب الحكاية تقف أبوظبي بمشروعها التوسعي الهادئ عبر الموانئ والقواعد والصفقات، ويقف حسن شيخ بمنطق مقايضة داخلي لا يهدأ، يوظّف تنافس القوى الخارجية ليعزز موقعه في بنية اتحادية هشّة.
تعتمد أبوظبي مقاربة إقليمية لا قطرية للقرن الأفريقي. فالمنطقة، في نظر محمد بن زايد، شبكة لوجستية وأمنية واحدة: خطوط إمداد تمتد من البحر الأحمر إلى العمق الأفريقي. عززت حرب السودان هذا المنطق؛ إذ اقتضى دعم الإمارات لمحمد حمدان دقلو "حميدتي" وقوات الدعم السريع البحث عن مسارات بديلة، عبر أوغندا وكينيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا وإثيوبيا وبونتلاند. بعض تلك المسارات تعثّر، وبعضها نجح، لكن النتيجة واحدة: تصنيف دول المنطقة إلى حلفاء وزبائن ومُعطِّلين محتملين. ووجدت أبوظبي في حسن شيخ زعيماً قادراً على إرباك ترتيباتها، لا سيما مع سجلّ متقلّب بين ولاياته الأولى والثانية.
كثيرون يردّون التوتر إلى صراع الإمارات مع الإسلام السياسي. لكن هذا التفسير لا يكفي هنا. صحيح أن حسن شيخ احتفظ بروابط مع "الدم الجديد" المنشق عن الإخوان المسلمين في الصومال، إلا أن هذا التيار تحوّل في السنوات الأخيرة إلى شبكة سياسية براجماتية تُعنى بالسلطة والموارد أكثر من الأيديولوجيا، وابتعد عن السلفية الحركية التي تمثلها "الاعتصام بالكتاب والسنة". بهذا المعنى، صار جوهر الخلاف مادياً: من يملك قرار الموانئ والصفقات، ومن يضبط التدريب والسلاح، ومن يرسم موازين القوة داخل الدولة الفيدرالية.
من هنا تحديداً اشتعلت الشرارة الأولى. في 2015، تقدّمت مفاوضات تأهيل ميناء بربرة في صوماليلاند، وكانت "موانئ دبي العالمية" قد شرعت بتوسّع كبير في القارة. بدا حسن شيخ يومها ميالاً للصفقة لإظهار حسن نية تجاه هرجيسا. لكن المزاج انقلب سريعاً في أواخر العام؛ عارض الرئيس إتمام الاتفاق، فيما مضى رئيس وزرائه عمر عبد الرشيد علي شرماركي ووقّعه عام 2016 من دون غطاء رئاسي. لم يُرسل النص إلى البرلمان خشية إسقاطه. قيل إن الحسابات الانتخابية ومحدودية الحوافز المعروضة على سياسيي مقديشو لعبت دوراً، وقيل أيضاً إن أبوظبي رأت في شرماركي "رجلها المفضل"، وإن الشركة استفادت من تنافس هرجيسا ومقديشو.
تعتمد أبوظبي مقاربة إقليمية لا قطرية للقرن الأفريقي. فالمنطقة، في نظر محمد بن زايد، شبكة لوجستية وأمنية واحدة: خطوط إمداد تمتد من البحر الأحمر إلى العمق الأفريقي
بلغت قيمة استثمار بربرة نحو 450 مليون دولار، ووقّع الاتفاق في مايو/أيار 2016 بلا دعم رئاسي. ومع وصول محمد عبد الله محمد "فرماجو" إلى الحكم، تبدّلت الأولويات. انحاز الرجل لقطر ورفض الحصار المفروض عليها في يونيو/حزيران 2017، فأسقط البرلمان مشروع بربرة رسمياً. لكن أعمال "موانئ دبي" كانت قد بدأت بالفعل، فتبدّد رهان استخدام الميناء كبادرة حسن نية، وزادت خصومة المركز مع صوماليلاند.
عاد حسن شيخ إلى القصر في مايو/أيار 2022، وانتقل الخلاف مع الإمارات من المرافئ إلى الأمن. كانت الحكومة بحاجة إلى دعم سريع لمعركتها ضد حركة الشباب، لكنها أرادت أيضاً الحفاظ على سيادتها. في فبراير/شباط 2023، عُرضت على البرلمان مسودة اتفاق تدريب ودعم عسكري من الإمارات منحت أبوظبي صلاحيات واسعة: اختيار من يُرقّى من المتدربين، تحرّك حرّ للقوات الإماراتية داخل البلاد بلا إخطار، وحصانة كاملة للعسكريين الإماراتيين. رُفضت المسودة، ولم يُظهر الرئيس رغبة جدية في تحسين شروطها. ثم ازداد غضب أبوظبي حين أقرّت مقديشو في فبراير/شباط 2024 اتفاق دفاع وتجارة مع تركيا من دون نشر نصه للنواب، بذريعة ضرورات الأمن القومي.
قُرئ ذلك كله في أبوظبي على أنه "لعبة" على الحبال. جاء الرد سريعاً: بناء قاعدة تدريب جديدة في ولاية جوبالاند، الخصم اللدود لمقديشو. كانت الرسالة واضحة: إذا تعذّر التعامل مع المركز، فالأبواب مفتوحة للتعامل مباشرة مع الولايات الفيدرالية وتثبيت نفوذ داخلها.
في 10 فبراير/شباط 2024 وقع الأخطر، حيث قُتل خمسة مدرّبين إماراتيين وبحرينيين، بينهم ضابط رفيع، برصاص متسلّل من حركة الشباب داخل قاعدة "الجنرال غوردون" في مقديشو. كانت الإجراءات تُلزم بتدقيق أمني دقيق لكل دفعة تدريب، لكن المجموعة التي انتمى إليها القاتل دخلت من دون فحص، رغم تحذيرات ضباط صوماليين وإماراتيين.
تشير روايات أمنية إلى أن حسن شيخ وافق، بطلب من رئيس ولاية جنوب الغرب عبد العزيز حسن محمد "لفتاغرين" ورئيس مجلس الشعب آدن محمد نور "مدوبي"، على تدريب كتيبة كاملة من مقاتلي الرحنوين بلا تدقيق فردي. احتاج الرئيس الغطاء السياسي من الولاية مع تأزم علاقته ببونتلاند وجوبالاند، فتقدمت الحسابات الداخلية على التحوّط الأمني، وترك ذلك جرحاً غائراً في ذاكرة القيادة الإماراتية.
هنا تتكشف طبقات الصراع على نحو أوضح، فأبوظبي ترى القرن الأفريقي امتداداً طبيعياً لأمنها البحري والتجاري. أدواتها المفضّلة: الموانئ والعقود طويلة الأجل والقواعد التي تربط البر بالبحر، وتؤمّن خطوط توريد لا تتأثر كثيراً بتقلّبات الحكومات. ومقديشو، بقيادة حسن شيخ، تدير اللعبة بمنطق توازنات داخلية: ترضية ولايات اتحادية متنافسة، وتوظيف تنافس خارجي - خصوصاً بين أبوظبي وأنقرة - لتحسين موقع الرئاسة داخل مؤسسات رخوة.
يظنّ حسن شيخ أن تعدد الرعاة يمنحه هامش مناورة، لكن التجربة تقول إن هذا التعدد يمكن أن يصنع خصوماً أقوياء، كما حدث مع الإمارات
هذا التباين البنيوي يتغذى على بعد شخصي متراكم: مسودة 2023 التي أُسقطت بفتور، الاتفاق التركي الذي مرّ من دون شفافية برلمانية، وهجوم قاعدة التدريب الذي أودى بضابط قريب من دوائر القرار في أبوظبي. حلقات صنعت شعوراً إماراتياً بالإهانة وسوء النية. فتوسّع الرد في ثلاثة اتجاهات: الاستثمار في خصوم الرئاسة داخل الصومال، توثيق الصلات المباشرة مع الولايات، وتكثيف الشبكات الإقليمية التي تسمح بتجاوز مقديشو أو الضغط عليها عند الحاجة.
النتيجة على الأرض مزدوجة العبء على الصوماليين: حرب على حركة الشباب تحتاج تسليحاً منضبطاً وتنسيقاً شفافاً مع الشركاء، ومشروع دولة اتحادية لا يحتمل تحويل الولايات إلى ساحات تنافس خارجي. يظنّ حسن شيخ أن تعدد الرعاة يمنحه هامش مناورة، لكن التجربة تقول إن هذا التعدد يمكن أن يصنع خصوماً أقوياء، كما حدث مع الإمارات. في المقابل، تميل أبوظبي إلى بناء التزامات طويلة تربط الموانئ بالطرق والمناطق الاقتصادية، وتُدار بمنطق صفقات سريعة الحسم لا تنتظر دورة السياسة في مقديشو.
في المحصلة؛ ليس صراع محمد بن زايد وحسن شيخ سجالاً أيديولوجياً، بل اختباراً قاسياً لمنطقين متصادمين لإدارة النفوذ في فضاء هش: منطق إماراتي يقدّم سلاسل التوريد والتموضع الصلب، ومنطق صومالي داخلي محكوم بمساومات السلطة الدقيقة. من دون قناة ثقة واضحة ترسم خطوطاً حمراء للسيادة والشراكة معاً، سيستمر الاشتباك بالوكالة داخل الولايات وعلى خطوط الموانئ والتدريب، وسيظل الصومال ساحةً مفتوحة لحسابات الخليج والقرن الأفريقي في آن واحد.
مُترجم من هذا المصدر