الاثنين 28 أبريل 2025
في أحد المشاهد الأخيرة من فيلم "No Simple Way Home "، تجلس أكوال دي مابيور داخل سيارة، تصف الأشخاص على جانب الطريق أثناء مرورها، حيث يسعى بائعو الشاي لكسب لقمة العيش. هؤلاء، كما تصفهم، هم من يمسكون بكل شيء، ويمنعون الانهيار.
عُرض فيلم المخرجة الجنوب سودانية هذا الشتاء، في مركز الثقافة المعاصرة في برشلونة (CCCB)، ضمن سلسلة من العروض بدعم من الجامعة المفتوحة في كتالونيا (UOC). تستضيف هاتان المؤسستان الكاتبة الزيمبابوية تستسي دانجاريمبجا (Tsitsi Dangarembga) في إطار برنامج إقامة أدبية، حيث قامت بتنظيم عرض لأعمال مخرجتين أفريقيتين صاعدتين: أكوال دي مابيور من جنوب السودان وميليسوثاندو بونجيلا من جنوب أفريقيا.
يُقدم فيلم أكوال دي مابيور، والذي عُرض لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي لعام 2022، قصة شخصية للغاية. وُلدت أكوال في كوبا عام 1989، ونشأت في العاصمة الكينية نيروبي، وهي ابنة جون قرنق وريبيكا نيانديج دي مابيور، وهما شخصيات محوريتان في كفاح جنوب السودان من أجل الاستقلال. تُوفي قرنق عام 2006، أي قبل خمس سنوات من إعلان البلاد استقلالها رسميًا عام 2011.
اليوم، يكافح جنوب السودان لإعادة بناء نفسه، وسط اتفاقية سلام هشة وصراعات داخلية متكررة. تشغل والدة أكوال أحد مناصب نواب الرئيس الخمسة في البلاد، في إطار نظام سياسي معقد شبيه بالنظام المتبع في البوسنة، حيث يهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على السلام الهش، بدلًا من تقديم الخدمات للمواطنين الجنوب سودانيين.
أصبح هذا السلام أكثر هشاشة، في الأسابيع الأخيرة، بعدما تبيّن أن اثنين من أقوى الشخصيات في الحكومة؛ الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، على وشك الدخول في صراع جديد. كما أدت الحرب في السودان إلى عرقلة أكبر مصدر لإيرادات البلاد، وهو صادرات النفط، التي تعطلت بسبب القتال قرب الخرطوم. كما أدى انخفاض قيمة العملة إلى تعميق معاناة معظم المواطنين الذين يعتمدون على الاقتصاد غير الرسمي، مما أفقد الجنيه الجنوب سوداني قيمته بمعدل 64٪ مقابل الدولار الأمريكي عام 2024.
تناقش أكوال دي مابيور، في حديثها إلى "جيسكا"، عملها في الإخراج السينمائي، وسعيها وراء الهوية والانتماء، وقرار والدتها الصعب بالانضمام إلى الحكومة، والتضحيات التي قدمها جيل بأكمله، والذي يتساءل اليوم عما إذا كان نضاله من أجل التحرر من السودان يستحق الثمن الذي دفعه.
أكوال دي مابيور: أعتقد أنها الخبرة؛ فمعرفتهم بالحياة تمكنهم دائما من التأقلم. لقد قمت بفيلم عن قطاع غير رسمي بعنوان: "القوة الخفية" وهو موجود على قناة الجزيرة. إحدى الشخصيات في الفيلم امرأة من جوبا في الخمسينيات من عمرها، وُلدت ونشأت هناك. تمتلك مطعمًا حافظت عليه خلال الحرب والسلام، ثم أعادت فتحه أثناء الحرب الأخيرة وبعدها. يعد هؤلاء الأشخاص، بالنسبة لي، أكبر مصدر للأمل والتغيير.
لقد اعتادت أن تقدم طعاما حسب الظروف، و"كلما ساء الظرف أعدت له طعاما خاصا به" مهما كان الأمر تجدها في مطعمها؛ لقد كنت أود تسمية الفيلم "ثورة طاولة المتجر".
أكوال: عندما أجرينا المقابلة معها، تحدثت عن الأنظمة التي ساعدتها على التعامل مع كل تلك الفوضى. إنهم أصحاب معرفة عميقة الناس، يكاد لا يؤبه لها. كما أنهم منظمون بشكل جيد، لكن عندما تنخفض قيمة العملة في يوم واحد، يتم القضاء على مدخراتهم. هذا كل ما لديهم – كانوا يدخرون بالعملة المحلية، وكانوا متفائلين ومستثمرين في بلدهم، لكنهم فجأة فقدوا كل شيء. لقد حدث هذا مرتين أو ثلاث مرات في جنوب السودان. نُحدِث تسي تسي (دانجاريمبجا) عن الاستمرارية، لكن مثل هذه الانهيارات للعملة، بسبب قرار تعسفي من أحدهم، حتما يؤدي إلى كسر الاستمرارية.
كنا نتحدث عن الميل إلى إجراء تغييرات جذرية، لأنها تبدو جيدة: "هذا الشخص سينقذنا". لكن ما يغير الأمور حقًا هو الاستمرارية؛ شخص مثل ماما زهرة، المرأة التي تمتلك ذلك المطعم. إنها مؤسسة قائمة بحد ذاتها. وهناك حتى مكان يُسمى "ميدان زهرة" لأن الجميع يعرف هذه المرأة التي تستمر في فتح متجرها، هذا المستوى من الاستمرارية هو ما يحدث فرقًا كبيرًا.
أكوال: نعم، وربما الاستثمار في مكان آخر. إن أولئك الذين يؤمنون بالبلد أكثر من غيرهم، وأولئك الأكثر ولاءً وانخراطًا في مجتمعهم، هم أكثر من يعاني، لأن أملهم يتحطم مرارًا وتكرارًا.
أكوال: من خلال تجربتي في العمل والتصوير في جنوب السودان، لا أستطيع إلا أن أتحدث كمراقبة. وجهة نظري لا تمثل بالضرورة جميع جنوب السودان.
إنه موضوع حساس، فانتقاد الدولة ليس بالأمر السهل. هناك عقلية تشكلت من خلال النضال التحرري؛ إن الاعتقاد بأن القائد أو الحركة سيقودان الشعب في النهاية إلى مستقبل أفضل، مثل هذا النوع من الإيمان يتطلب تضحيات. لذلك، رغم الإحباط المستمر والصعوبات المتكررة، لا يزال الأمل في القيادة قائمًا. مؤكد أن الناس غاضبون، بيد أنهم يفضلون الصمت.
أكوال: كان هناك أمل كبير في عام 2011، إلا أن الكثير من الأزمات الكبرى في تاريخنا القصير نشأت بسبب صراعات السلطة بين القادة. يقوم القادة بحشد مجتمعاتهم لدعمهم؛ "هؤلاء هم شعبي، لذا هم يقفون معي"، ثم فجأة يتغير هذا الدعم بناءً على الخلافات الشخصية، مثل قرار: "لم أعد أحب هذا الشخص"، هكذا تبدأ الحروب الأهلية من القمة.
أكوال: تعرفت على الكثير من الأشياء عن جنوب السودان، منذ أن أنهيت الفيلم. بالطبع، لا أعتبر نفسي خبيرة بشؤون البلاد. لقد تعلمت فقط من خلال وجودي هناك، وكذا من خلال التحدث إلى الناس. لقد قمت بإخراج فيلم قصير آخر، تطلب منا السفر على متن بارجة قديمة لمدة ثماني ساعات على امتداد النيل.
ذهبت لإخراج الفيلم دون حكم مسبق؛ كنت أبحث عن أي شيء يمكن أن يمنحني الأمل، حتى ونحن نمر بكوارث هائلة. الاستنتاج الوحيد الذي توصلت إليه هو أن القطاع غير الرسمي المتمثل في المقاهي الموجودة في جوبا وجنوب السودان. إذا كنت زرت جوبا، فستلاحظ الكراسي الزرقاء في كل مكان، وسترى لا شك امرأة تقدم الشاي وأشخاص يجلسون على الطريق.
حتى عندما تغرق البلاد بفعل الفيضانات، ستجد دائمًا امرأة ترتب الكراسي، وتفتح مقهاها. بالطبع، لا ينبغي لأحد أن يعيش بهذه الطريقة، لكن هؤلاء الأشخاص الذين لا يزالون يفتحون متاجرهم في مثل هذه الظروف؛ هم وأمثالهم من أضع تحت عدستي كاميرتي.
أكوال: في سياق جنوب السودان، أعتقد أن جزءًا من هويتنا يأتي من النضال من أجل التحرير؛ نحن ننتمي إلى بلد (السودان) حيث لم يُعامَل الجنوبيون بشكل جيد. لديك التزام تجاه بلدك لأن الكثير من الناس قد ضحّوا من أجلك: يُروى لك ذلك، وتتعلمه من تلك القصص. لذلك، عليك أن تعود إلى بلدك وتساعده، لأن كل هؤلاء الناس قدّموا تضحيات من أجلك. هذه سردية قوية ومؤثرة؛ لقد ضحّى الكثيرون لكي تتمكن من أن تطلق على نفسك اسم جنوب سوداني.
هناك جانب إيجابي في هذا الشعور بالواجب، لكنه قد يجعل الناس أيضًا لا يطرحون الأسئلة الكافية: من المفترض أن تحب بلدك فقط، وأن تشعر بالوطنية في قلبك.
أكوال: الأمر أشبه بتجربة دينية. يُفترض بك أن تستسلم ولا تطرح الكثير من الأسئلة. أريد فقط أن أعرف ما إذا كان بإمكاني الحصول على وظيفة، وأين سأعيش، وكيف تبدو المدارس، وما هي مستويات المعيشة - أشياء عملية، ما هو سعر المياه؟
لدينا سردية توحيدية، وقد يشعر الناس بالارتباط بالعودة إلى الوطن - حتى لو كان وطنًا لم يزوروه من قبل. يمكنك أن تعيش في حي في أستراليا، وتشعر بارتباط عميق بجنوب السودان، حتى لو لم تزرها قط. هناك جانب إيجابي في ذلك، ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يصبح الأمر رومانسيًا للغاية، مما قد يؤدي إلى خيبة أمل كبيرة.
أكوال: نشأت في كينيا، وكنا نشعر أننا لسنا كينيين، لكنني متأكدة من أن الأمر لم يكن سيئًا، كما هو الحال في أستراليا أو مصر أو شمال السودان. أدركت أيضًا، بعد التصوير، أن بناء الوطن والإحساس المتغير بالوطن هو أمر عالمي: الجميع يجب أن يحددوا أين يكون وطنهم. ولكن إذا كنت غير مستقر في هويتك الوطنية بسبب ظروفك، فتميل إلى الاعتقاد بأنك الشخص الوحيد الذي لا يشعر بأن لديه وطنًا.
أكوال: كان هناك دائمًا العديد من النازحين داخليًا، لذا فإن الذين بقوا كان عليهم أن يواجهوا تحديات صعبة جدًا للبقاء باستمرار. قد يكون هناك توتر وإحساس بـ: "لقد كنتَ مرتاحًا في الخارج طوال هذا الوقت، والآن تعود وتريد أن تخبرني ماذا يعني أن تكون "من هنا"، بينما أنا الذي كنتُ هنا طوال الوقت؟"
ثمة توتر بين من بقوا على مقربة، وانخرطوا بطريقة ما، وأولئك الذين ذهبوا للعيش في الولايات المتحدة أو أستراليا، ولم يعودوا أو عادوا بين الفينة والأخرى. أعتقد أن هذا مؤسف: يجب أن يكون هناك مزيد من التسامح تجاه الذين بقوا والذين غادروا، لأن الوضع صعب. أعتقد أن الأمر متأزم لأن كلا الجانبين يمكن أن يقدما حججًا صحيحة حول خياراتهما.
أكوال: ما يقلقها دائمًا هو أن كل ذلك كان بلا جدوى. تسأل نفسها دائمًا: "هل كان كل هذا عبثًا؟" تقول ذلك طوال الوقت، وتتحدث عن ذلك بصراحة. وتتساءل: هل فعلنا كل هذا وقدمنا كل هذه التضحيات؟ هل مات كل هؤلاء الناس سدى؟ وترى نفسها أيضًا على أنها ضحت بزوجها من أجل هذه القضية، وهي التضحية القصوى. لا أعتقد أنها وجدت إجابة لهذا السؤال؛ إنه العبء الذي تحمله.
أكوال: من الناحية التقنية، الأمر وارد في اتفاقية السلام لعام 2018. كان هناك قرار بمنح مناصب للأطراف المتنازعة، وتم تصنيفها مع ما يُسمى بالمحتجزين السابقين - وهم مجموعة من الأشخاص الذين تم اعتقالهم. لقد تحدثت ضد أي إجراء يُتخذ ضدهم. هؤلاء أشخاص تعتبرهم رفاقًا، وكانوا قريبين من والدي ولعبوا دورًا كبيرًا في الحركة.
لذلك، فهي واحدة من بين خمسة نواب للرئيس. عندما أجريت مقابلة معها، قالت إن القبول لم يكن قرارًا سهلاً، لأن الأمور فوضوية وخطيرة. لكنها شعرت أنه بإمكانها المساعدة في الحفاظ على السلام.
أكوال: هذا ما دفعها للقول: "حسنًا، سأفعل ذلك"، لأننا لا نستطيع تحمل حرب أخرى. خلال عرض في سان فرانسيسكو، سألتني امرأة: "لماذا انضمت والدتك إلى حكومة فاسدة؟"
لقد كان سؤالًا وجيهًا؛ فقلت لها: إنه لم يكن قرارًا سهلاً، لكنها شعرت أن الرفض قد يؤدي إلى نتيجة أسوأ. هل تتخذ القرارات بناءً على المظهر العام؟ نعم، لو كانت خارج الحكومة، كان بإمكانها أن تكون في المعارضة، وتقول: "انظروا كيف هم سيئون"، وتبدو في موقف أخلاقي جيد. ولكن، كان هناك ما هو أكثر من ذلك في هذا القرار. لم يكن قبولها للمنصب بسهولة؛ هي لا تطمح إلى السلطة السياسية.
أكوال: أحب أن أقوم بسلسلة أفريقية عن القطاع غير الرسمي – عن الأشخاص الذين يجدون طرقًا لجعل الأمور مستمرة. كما أنني أعمل على اقتباس لرواية سودانية مع بعض المنتجين في باريس. بالإضافة إلى ذلك، كنت أُعد فيلما آخرا عن أحد السياسيين منذ عدة سنوات.
لقد كان مشروعًا صعبًا ومستمرًا، وآمل حقًا أن أنجح في إكماله. لا أريد أن أصنع فيلمًا كاشفًا فحسب، وأريد تجنب الدعاية. دائمًا ما أضطر إلى إضافة هذا التوضيح: أريد أن أُضفي الطابع الإنساني على القيادة الأفريقية، ولكن هذا لا يعني أنه يجب علينا التغاضي عن الأخطاء.
نميل إلى إما تقديس أو شيطنة القادة. مانديلا يُعتبر قديسًا، أليس كذلك؟ ثم لدينا من نعتبرهم شياطينا ووحوشًا خارج نطاق الإنسانية. أرى أن دور صانع الأفلام الوثائقية هو تقديم كل تلك التجارب في إطار إنساني مشترك.