تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

أخوات سيناء وإسرائيل الكاثوليكية و"نهب تراث أفريقيا"

21 فبراير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

تلمسًا لاقتفاء خطى النبي موسى وقومه في سنوات التيه في سيناء، المقدر حدوثها في القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ جاءت الأختان الإنجليزيتان التوأم آجنس سميث لويس ومارجريت دانلوب جيبسون، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، سعيًا للوصول لوثائق جديدة، توجه إنجازهما التاريخي الملفت بكشف ما عُد أقدم نص مكتوب للكتاب المقدس باللغة السريانية. 

بات الحدث، في السنوات التالية، محل اهتمام العالمي الغربي، منذ أن بادرت صحيفة "ديلي نيوز" اللندنية، في 13 أبريل/ نيسان 1893 بنشر قصة غير عادية عن سفرهما إلى جبل سيناء في مصر، وكشفهما مخطوطة قديمة للأناجيل الأربعة في أروقة دير سانت كاترين. 

لم تكتف الأختان آجنس ومارجريت بهذا الإنجاز التاريخي، بل تمكنتا بعد ذلك بسنوات قليلة من الحصول على "وثائق الجنيزة" بمدينة القاهرة، وهي واحدة من أغنى وأكبر مجموعات الوثائق التي تؤرخ للتجارة العالمية، فيما بين القرنين (10-14م)، وفي قلبها تجارة العالم الإسلامي وتجارة البحر الأحمر والمحيط الهندي المارة بسواحل شرق أفريقيا. 

نجحتا في ذلك بفضل مساعدة نافعة من المؤرخ المولدوفي سولومون شيكتر (S. Schechter)، الذي وظف وثائق الجنيزة في خدمة مشروعه الأيديولوجي والسياسي عن "إسرائيل الكاثوليكية"، وعززه في ذلك علماء يهود وغيرهم في دراساتهم لأوراق الجنيزة، مستهدفًا توحيد جميع اليهود في أرجاء العالم، بمن فيهم الجماعة الكبيرة في جنوب أفريقيا، خلف هدف إقامة الدولة اليهودية، وقدموا ما اعتبروه أحد الأسس التاريخية لهذا الهدف. 

الأختان بصحبة سولومون: القدس والقاهرة (ربيع 1896)

ولدت الأختان آجنس ومارجريت عام 1843، وقامتا برحلات منتظمة لمصر وفلسطين واليونان وقبرص، تعلمتا خلال هذه الرحلات العربية واليونانية الحديثة. وكان لزواج آجنس عام 1887 من عالم الآثار الإنجليزي البارز س.س. لويس في كمبريدج، أثر واضح في تعاظم اهتمامها بالتوجه إلى مصر. 

بعد وفاته عام 1891 خططت لرحلة رفقة أختها مارجريت إلى موقع جبل سيناء بالتحديد حيث حققتا هناك أعظم اكتشافاتهما وهو النص السرياني القديم للأناجيل. وقد أوكلت لويس تحريره لثلاثة من أبرز العلماء في اللغة السريانية حينذاك، قبل أن تقوم عام 1910 بنشر طبعة جديدة منقحة وضعتها بنفسها. 

بعد أعوام قليلة، نتج عن اقترابات آجنس ومارجريت للوثائق الموجودة في مصر نهب واحد من أهم مجموعات الوثائق والمخطوطات التي وجدت على أرض أفريقية، ونقلها إلى مراكز غربية متعددة،

عام 1915 قُلدت وأختها، نظير جهودهما، الميدالية الذهبية "Gold Medal" على يد سير أوستن شامبرلين؛ وزير الخارجية لشئون الهند حينذاك؛ حسب النعي الموجز الوارد عن آجنس في "دورية الجمعية الآسيوية الملكية" عدد أبريل/ نيسان 1926. 

لم يكن جهد الأختان آجنس ومارجريت ناشئًا من فراغ أو محض مصادفة؛ فقد جاء في توطئة كتاب جانيت سوسكيس عن "أخوات سيناء: كيف اكتشفت مغامرتان الأناجيل المخبئة" (نيويورك- 2009) أن هذا الجهد قد جاء في سياق جدل أنجلوساكسوني متصاعد حول "سلامة النص (الكتابي) نفسه"، وليس مضامينه فحسب، مثل: الخلق وطوفان نوح وإطعام الإسرائيليين المن والسلوى في الصحراء، ولاسيما مع صعود تيار نقدي موجه لنسخة الملك جيمس، وكثير من "الكتب المقدسة الأوروبية" (European Bibles) القائمة على النص اليوناني، وما ثار وقتها من توجه لضرورة مقارنة النص الأخير بمخطوطات مشرقية (عربية الموطن) للوصول إلى الصيغة المثلى. 

حدث تطور لافت في ذلك بكشف قسطنطين فون تيسشندورف ( Constantin von Tischendorf) عام 1859 لنسخة قال إنه تتبعها حتى مقرها في جبل سيناء. وتمكن لاحقًا من قراءتها، واعتمادًا على تلك النسخة، وأخرى كانت محفوظة في مكتبة الفاتيكان أفرج عنها في وقت مقارب، تمكن عالمان في كمبريدج، وهما بروك ويستكوت وفينتون هورت، من إعداد نسخة جديدة ومدققة من العهد الجديد المكتوب باليونانية. 

استخدمت لجنة مراجعة لتنقيح (ترجمة) الإنجيل هذه النسخة لإصدار ترجمة إنجليزية جديدة للعهد الجديد، في 17 مايو/ آيار 1881، وبيع منها في اليوم الأول أكثر من مليون نسخة في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث تولت عملية التوزيع مطبعة جامعة أكسفورد. وجاءت نسخة آجنس ومارجريت المشار لها لتكمل هذه الجهود قرب نهاية القرن التاسع عشر. وقد ساعدهما في نجاح جهدهما، ولعهما بكشف المخطوطات دون كلل، وكذا اتقانهما للغتين العربية واليونانية القديمة بطلاقة.

بعد أعوام قليلة، نتج عن اقترابات آجنس ومارجريت للوثائق الموجودة في مصر نهب واحد من أهم مجموعات الوثائق والمخطوطات التي وجدت على أرض أفريقية، ونقلها إلى مراكز غربية متعددة، أبرزها كمبريدج، وظهرت مؤخرًا في مشاريع رقمنة مهمة مثل مشروع فريدبرج (FGP)، ومشروع برينستون (الذي يتميز بوجود واجهة عربية له) وغيرهما. 

توظف مضامينها في دراسة عالم البحر المتوسط، وتكريس "المركزية الأوروبية" مع اهتمام ضئيل بالعمق الأفريقي لمضامين هذه الوثائق والمخطوطات. كما أرفد سولومون نشاطه في نقل المخطوطات، بجهد دعوي كبير بين يهود جنوب أفريقيا، لدعمهم فكرته عن "إسرائيل الكاثوليكية"، أو الموحدة لجميع يهود العالم. 

الإرث الأفريقي في خدمة "إسرائيل الكاثوليكية"

بالتزامن مع انطلاق حركة التكالب الاستعماري الغربي في القارة، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت مجموعة الجنيزة محل اهتمام شخصيات يهودية نافذة في ذلك الوقت، قبيل وصول آجنس ومارجريت لغالبيتها العظمى، مثل الحاخام سولومون أرون ويرتايمر (S. A. Wertheimer) الذي نشر عددًا من أوراقها في بداية التسعينيات. وإن كان هذا النشر "غير علمي"، على حد وصف المؤرخ الألماني شلومو دوف جويتين؛ الذي كرس حياته العلمية بأكملها لدراسة هذه الأوراق حتى وفاته (1900-1985)

خلال فترة تجديد معبد بن عزرا، وما تلاها من بيع عدد من لفائف الجنيزة لمجموعة من جامعي الكتب الأوروبيين، ومن بينهم ويرتايمر، الذي ركز نشاطه في القاهرة بائعًا للكتب النادرة، ومهد الطريق أمام نشاط أبرز عضوات "أخوات سيناء" (آجنس ومارجريت) اللتان قامتا بشراء العديد من هذه اللفائف، خلال زيارتهما للقاهرة عام 1896. 

لدى عودتهما لكمبريدج استشارتا عالمًا عبرانيًا بخصوص ما عثرتا عليه في القاهرة، ورغم عدم تحمس هذا العالم، وهو شيكتر، في البداية لهذه اللفائف، فقد انتابه حماس ملفت بعد دراسته لأوراق بن سيرا (Ben Sira)، وخاطب تشارلز تايلور ( C. Taylor)، رئيس "كلية القديس يوحنا" من أجل تمويله رحلة عاجلة إلى القاهرة. 

اشترى شيكتر في الفترة ما بين 1896 و1897 جميع ما تبقى من أوراق الجنيزة، ولم يخلف ورائه في معبد بن عزرا سوى الكتب المطبوعة، غير أن مؤرخين أكدوا أنه ليس واضحًا إن كان ما اشتراه فحسب من معبد بن عزرا أم من مجموعات مماثلة لجنيزته في مواقع مختلفة بالقاهرة، في إشارة إلى جنيزة مقابر اليهود بالبساتين، على بعد كيلومترات قليلة شرق موقع بن عزرا. وأرسل ثمانية صناديق كبيرة تحتوي مشترياته إلى جامعة كمبريدج، قدرت محتوياتها حينذاك بنحو 140 ألف ورقة، وتقدر حاليًا بنحو 193 ألف مخطوطة، تمثل معًا Taylor-Schechter collection (T-S) في جامعة كمبريدج، وهي الجزء الأكبر من مجموعة الجنيزة ككل. 

كما أمضى سولومون قسطًا من حياته في مصر لنهب وثائق الجنيزة، فإنه قضى وقتًا في جنوب أفريقيا لأسباب مختلفة؛ إذ توجه مطلع القرن الماضي إلى جنوب أفريقيا بعد فترة من وصوله إلى الولايات المتحدة (أي بعد عام 1902) بغرض حشد مواقف يهود البلاد، ودعمهم لأفكاره الهادفة إلى قيام وطن يهودي في فلسطين، أو ما صاغه بشكل أكثر وضوحًا في فكرة "إسرائيل الكاثوليكية" (أو فكرة الشعب اليهودي الموحد).

حسب مايكل ر. كوهين، في مقدمة كتابه عن "مولد اليهودية المحافظة" (نيويورك، 2012)، فإن الفكرة كما صاغها سولومون كانت خطوة كبيرة لإقناع قطاعات كبيرة من اليهود في أرجاء العالم (ومنهم في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة) أنه ثمة سبل عملية لتطبيق أفكار اليهودية التاريخية، وإقامة وطن "يهودي"، وأنه لا يمكن إقامة مثل هذا الوطن إلا على يد جماعة يهودية موحدة (في أرجاء العالم). 

حشد مواقف يهود البلاد، ودعمهم لأفكاره الهادفة إلى قيام وطن يهودي في فلسطين، أو ما صاغه بشكل أكثر وضوحًا في فكرة "إسرائيل الكاثوليكية" (أو فكرة الشعب اليهودي الموحد).

لاحظ كوهين أنه رغم أن الفكرة لم تحظ بقناعة جميع اليهود وقتها، لكنها باتت الفكرة الرائدة على الأرض في سنوات تكوين "دولة إسرائيل"، وتبنتها جهات يهودية بارزة منذ مطلع القرن الماضي، وفي مقدمتها المعبد الأمريكي الموحد (USA) وجمعية الحاخامات (RA). وآتت الحركة أكلها في الخمسينيات، بعد قيام إسرائيل نفسها باتفاق واسع بين حاخامات اليهود على تكييف الشريعة اليهودية مع الأوضاع الحديثة الناشئة.

ركز سولومون إسهامه، حسب خلاصات ديفيد ستار (D. B. Starr) في أطروحته عن إسرائيل الكاثوليكية (جامعة كولومبيا، 2003)، على موضوع رئيسي يتعلق بمواجهة اليهودية للحداثة ومسألة الوحدة في الحياة اليهودية؛ وقد عارض سولومون جميع القوى التي اعتبرها ذات طبيعة طائفية تعوق اليهود عن الولاء لنزعة يهودية تاريخية (توراتية بطبيعة الحال) كما يفهمها. وصنفه ستار كشخصية مفرطة الرومانسية، تنتمي لتوجهات القرن التاسع عشر المسماة بالقومية العضوية (organic nationalism). وأنه نجح في مزج الاهتمام البريطاني باللاهوت والتاريخ مع مقاومته العنيفة لتوجهات بعينها في التثاقف الأنجلو-يهودي، كما تبلور في معارضته لحرب البوير في جنوب أفريقيا (1899-1902) في الوقت الذي بدأت فيه فكرة الصهيونية تهيمن على أفكاره بشكل لا لبس فيه. 

"...وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب"

تبدو من الوهلة الأولى المفارقة الشكلية في تزامن نهب المخطوطات اليهودية من مصر، التي ظلت موقعًا عالميًا لأنشط جماعات اليهود في أفريقيا، ومن أكبرها منذ القرن العاشر للميلاد على أقل تقدير حتى الغزو العثماني لمصر 1517م، على يد سولومون مع مشروعه بدعم قيام دولة يهودية، عبر حشد دعم الجماعة اليهودية الأكبر والأكثر تأثيرًا في الاقتصاد العالمي في العصر الحديث، في أقصى جنوب القارة الأفريقية.

لكن نظرة أعمق في ارتباط نهب التراث الأفريقي بالتكالب الاستعماري، وفي سياق رؤية أوسع لتنوع الثقافات الأفريقية وثرائها، وتداخلاتها الجغرافية التي تم تهميشها غربيًا؛ وخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين من بداياته، حتى ترويج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعدد من رؤوس حرابه في الشرق الأوسط لأفكار الإبراهيمية لتوحيد شعوب الشرق الوسط (ومنها دولًا أفريقية مثل مصر والسودان وغيرهما) أخذًا في الاعتبار تشابه بعض منطلقاتها مع فكرة "إسرائيل الكاثوليكية"، لكن في مدى أوسع).

نظرة أعمق في ارتباط نهب التراث الأفريقي بالتكالب الاستعماري، وفي سياق رؤية أوسع لتنوع الثقافات الأفريقية وثرائها، وتداخلاتها الجغرافية التي تم تهميشها غربيًا؛ وخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين من بداياته، حتى ترويج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

 تكشف -هذه الرؤية- عن نوع من الاستمرارية الواضحة في هذه المساعي الغربية دون وجود فواصل زمنية تذكر. إذ يكشف مثال نشاط الأختين أجنس ومارجريت في مصر، وارتباطه بنشاط شيكتر في مصر وجنوب أفريقيا من جهة، وفي أوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى (دعمًا لقيام دولة يهودية في فلسطين) عن قدرة الاستعمار الغربي وأدواته على النهب المادي والمعرفي، ومواصلة تكريسه لخدمة أفكاره ومشروعاته الدؤوبة.

إن الحرب الجارية في فلسطين، وما طرحه ترامب بخصوص تسوية القضية الفلسطينية "مرة واحدة وللأبد"، حتى لو بسلاح التطهير العرقي المنهجي، لأكثر من مليوني نسمة في غزة راهنًا، وربطه الضغط لتحقيق هذه التسوية على بعض الدول بملفات أخرى في قلب أفريقيا، وتزامن ذلك مع ضغط أمريكي "أفريكانري الدوافع" (بدفع من إيلون ماسك الجنوب أفريقي الأصل، ووزير الكفاءة الحكومية في إدارة ترامب وصاحب شركة تسلا العملاقة) على جنوب أفريقيا بحجة "سياسات الأراضي"، لعل كل ذلك لا ينظر له بمنأى عن طبيعة موقع أفريقيا ومقدراتها، في مرمى آلة الهيمنة والاستعمار الغربي، الذي تشكل الصهيونية رافدًا هامًا له منذ بداياتها وجهود آبائها الأوائل في أفريقيا.