تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

احتراق المكتبات في أفريقيا: ما لم تنقله نشرات الأخبار

11 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

في كل يوم يتسلل رجل غامض إلى مئات المكتبات في أفريقيا ويضرم فيها النار، تحترق الكتب ويتطاير الشرر والناس ينظرون، لا أحد يستدعي عربات الإطفاء، ولا يبدو ما فعله الرجل مثيرا للدهشة، والذين يشاهدون الحريق يستغلون أضواء الحريق في أسمارهم، فيتحدثون عن حكايات حازت ملايين من المشاهدات في موقع تيك توك، وعن تفاصيل الدوري الإنجليزي لكرة القدم أو الدوري الإسباني وحركة تنقلات اللاعبين أو العشيقة الجديدة لجاستن بيبر أو إطلالات جديدة لنجمات السينما في مهرجان توزيع جوائز الأوسكار، دون أن يذكر أي منهم شيئا عن الكنوز المعرفية التي ضاعت والتي لا يمكن تعويضها.
هل ترى أن هذا الخبر يستحق أن تهتم به وسائل الإعلام؟ أعتقد ذلك، إنه خبر مجازي على أية حال، إن الرجل الغامض الذي يحرق المكتبات هو الموت، وما المكتبات إلا كبار السن الذين ورثوا الحكمة والحكايات، وأوصلوها إلينا، كما حملوا إلينا جينات أجدادنا الأقدمين، يقول أمادو همباتي با: "في كل مرة يموت فيها مسن أفريقي، فإن ذلك بمثابة احتراق مكتبة"، وهذه العبارة تتجاوز معناها الرمزي لتكون إنذارا من أحد أعظم حفظة التراث الشفوي الأفريقي في أربعينيات القرن الماضي، في وقت كانت فيه الأمور تحت السيطرة، فكيف بنا الآن في عصر الضياع واندثار الهويات الفريدة؟

الأجيال المحظوظة

ربما كنا محظوظين، نحن الذين عشنا في عصر ما قبل الانفتاح المهول، كنا مستمتعين بالحياة على طريقتنا الخاصة، كانت لنا هوية تميزنا عن كل مجتمعات العالم، لنا لغتنا ولنا ألعابنا وحكاياتنا، كنا نصنع بهجتنا قبل أن نعرف عصر التعليب، فحتى الضحكات صرنا نستوردها معلبة من بعيد، كنا نحس بأننا أجزاء لنظام متكامل، لكل شخص نكهته ودوره الفريد.


"في كل مرة يموت فيها مسن أفريقي، فإن ذلك بمثابة احتراق مكتبة". هذه العبارة تتجاوز معناها الرمزي لتكون إنذارا من أحد أعظم حفظة التراث الشفوي الأفريقي في أربعينيات القرن الماضي


كنا نتحلق في الأمسيات حول جداتنا نستمع لحكاياتهن الآسرة، نتوحد مع الأبطال في عوالم الحكاية، نأخذ العبرة ونخاف أحيانا أكثر مما تخيفنا الآن الأفلام المأخوذة عن روايات ستيفن كينج، ففي الليالي غير المقمرة، كنا نتخيل تلك الكائنات الخرافية، فكنا نعود راكضين إلى البيت عندما يرسلوننا للدكان، ومع اشتداد ظلمة الليل، كنا نخاف العفاريت والغيلان التي تتشكل في أشكال عديدة، وترعبنا كذلك قصص الموتى العائدين إلى الحياة لإنجاز أشياء لم ينجزوها أو كشف أسرار ضاعت معهم.
كنا نلزم الجدات مثلما صرنا نلزم التلفاز ومن بعده هواتفنا النقالة، كانت الجدات والأجداد ملاذنا نحن الأطفال، فهم خبراء التربية، يحاولون تسليتنا وترسيخ القيم فينا بطريقة رمزية من خلال الحكايات وقصص الحيوان، كانوا يتحاشون بقدر الإمكان الأوامر المباشرة والنواهي الزاجرة.

كراستي الضائعة:

شعرتُ عندما كنت في الثانوية برغبة ملحة في تدوين الأمثال الشعبية والحكايات والتفسيرات الأسطورية لظواهر الحياة، جمعتُ مئات الأمثال وعشرات الحكايات، كانت معي كراستي التي أحملها معي دائما حتى لا يفوتني شيء، أحيانا أسجل على شريط كاسيت، كل ذلك المجهود خلفه دافع خفي، كنت أستمتع بما أقوم به.
عندما سافرت إلى الخرطوم لدراستي الجامعية، أخذت معي تلك الأوراق، وذات يوم نسيت كراسة الحكايات الشعبية في الحافلة، وضاع المجهود. مضى على تلك الحادثة أكثر من عشرين عاما، وما زالت حسرتي في فمي، لأنني متأكد من أنني لن أتمكن من استرجاع تلك الحكايات، وبقيت لي بعض الأوراق آمل أن أستفيد منها في مشاريع روائية قادمة.


ربما كنا محظوظين، نحن الذين عشنا في عصر ما قبل الانفتاح المهول، كنا مستمتعين بالحياة على طريقتنا الخاصة، كانت لنا هوية تميزنا عن كل مجتمعات العالم، لنا لغتنا ولنا ألعابنا وحكاياتنا، كنا نصنع بهجتنا قبل أن نعرف عصر التعليب


كان من الممكن أن يصير ما جمعته إضافة إلى المكتبة السودانية التي لم تعرف مِن كُتب الحكايات الشعبية سوى ما جمعه البروفسور عبد الله الطيب في كتابه "الأحاجي السودانية"، وأغلب ما فيها من تراث شمال السودان، ومع عجزي عن فعل شيء إضافي تجاه حكاياتنا في غرب السودان، صرت أكثر إعجابا بما قام به بروفسور عبدالله الطيب وأمادو همباتي با الذي جمع لنا حكايات الفولاني، ونشرها للعالم وكذلك دي أو فاجونوا الذي اهتم بتراث اليوربا وكذلك آموس تيوتولا، وصرت أشفق على ملايين الحكايات بآلاف اللغات الإفريقية، ومع كل عجوز يموت أشفق أكثر.

الجزر المعزولة

اليوم ليس للجدة تلك المكانة التي كانت تمتاز بها من قبل، وإن كانت في المدينة فعلاقة الصغار بها لا تتجاوز إحضار الطعام، هنالك ما يشغل أطفالنا عنها، لديهم تلفازهم الذي يعمل على مدار الساعة، لديهم عوالم ديزني، لديهم سبايدرمان وسندريلا وذات الرداء الأحمر، لديهم فيديوهات مسلية قاموا بتحميلها من تيك توك، لديهم لعبة بوبجي. أما حكايات الجدة، والتواصل بين الأجيال فتلك معضلة لم تشغل بال الكثيرين، لا أدري إذا استمر الوضع على ما هو عليه، هل سيكون للطفل الإفريقي ما يميزه عن أطفال نيويورك؟.
لقد صرنا نعيش في جزر معزولة، لا علاقة متينة بين الأجيال، ولا حديث من القلب إلى القلب يسمح بانتقال التراث الشفوي، والذي يعد من أهم مكونات الهوية الثقافية، وبضياعه ستضيع الهوية لا محالة، ولن نتمكن من تعليمهم فلسفتنا في الحياة والقيم التي نؤمن بها أو تاريخنا الذي نعتز به، وعندما يكتب هذا الجيل رواية أو قصة أو قصيدة، لن يكون فيها تلك الألوان الإفريقية الدافئة ولا روح أجدادنا ولا حكمتهم، وسيتحول نمط الحياة في لأعمالهم-كما هو واقعهم-إلى الفردانية، لعدم الاهتمام بما يشكل الوعي الجمعي ويعزز التماسك الاجتماعي.

حكاياتنا تحت التهديد

إننا اليوم أكثر حاجة لتدوين التراث الشفهي الإفريقي للقبائل المختلفة، فكما قال الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال بعد عودته من الدراسة في الغرب: "أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكنني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف". فذلك التراث يشعرنا بأصلنا وجذورنا ومنه نعثر على الهدف، لكنني أشعر بأن حكاياتنا في مهب الريح، تذروها رياح العولمة والتأثير الثقافي الغربي.
لقد أدى انتشار الثقافة الغربية إلى تراجع الاهتمام بالقيم التقليدية والتراث المحلي في العديد من المناطق الإفريقية، بطريقة ما صرنا نعرف كل شيء عن الغرب حاضره وماضيه وأساطيره الإغريقية، في وقت تتلاشى فيه ثقافتنا، لكن لا أحد ينتبه، فنحن مشغولون عن تراثنا بنمط الحياة المعاصرة والثقافة التي تقتلعنا من جذورنا، وتفردنا لنصير كائنات متشابهة تم تصنيعها في مصانع العولمة.
مع انتشار التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي صرنا أقل اتصالا مع ذواتنا، في حين أن هذه الوسائل يمكن أن تكون أداة للحفاظ على التراث، إلا أن استخدامها غير المدروس أدى إلى تهميش دور الحكائين التقليديين. ومع غياب الدعم المؤسسي وعدم وجود مبادرات حكومية أو مؤسسية مكرسة للحفاظ على التراث الشفوي والتغيرات الاجتماعية والديموغرافية الناتجة عن تحول المجتمعات الأفريقية من القرى الصغيرة إلى المدن الكبرى، وتقلص الروابط الأسرية والتواصل بين الأجيال، فإن فرصة ضياع حكاياتنا وحكمتنا كبيرة للغاية وأكثر خطورة من الاستعمار الذي قاومه أجدادنا.

ما العمل؟

ربما يبدو الأمر خارجا عن السيطرة، لكن هنالك ما يمكننا فعله لربط أطفالنا مع تراثهم الإفريقي، فربما نجد طريقة لا تُروى فيها الحكاية شفويًا عن طريق الجدة، لكنها قد تُبعث من جديد في بودكاست أو مسلسل رسوم متحركة، أو لعبة إلكترونية تصمَّم من وحي الحكايات الإفريقية، كما تفعل اليابان مع تراثها. وقد تنتقل من الصيغة التقليدية إلى السرد الرقمي المتفاعل، حيث يشارك الطفل في تحديد مصير البطل، بدل أن يستمع فقط.


صرنا نعرف كل شيء عن الغرب حاضره وماضيه وأساطيره الإغريقية، في وقت تتلاشى فيه ثقافتنا، لكن لا أحد ينتبه، فنحن مشغولون عن تراثنا بنمط الحياة المعاصرة والثقافة التي تقتلعنا من جذورنا، وتفردنا لنصير كائنات متشابهة تم تصنيعها في مصانع العولمة


لكن هذا لن يحدث تلقائيًا، بل يتطلب جهودًا مؤسساتية وثقافية عميقة، مثل: إنشاء منصات رقمية تجمع الحكايات والأساطير المحلية، بصيغ صوتية ومرئية، لتخزينها للأجيال القادمة. وتشجيع الباحثين على جمع الحكايات من القرى قبل أن تختفي. مع ضرورة توفير الدعم المالي والمعنوي للحكائين والشعراء التقليديين، لتشجيعهم على مواصلة دورهم الثقافي. فضلا عن ترجمة هذه الحكايات إلى اللغات العالمية بلغة أدبية جذابة، وتحويلها إلى أعمال درامية. هناك أيضا مقترح إدماجها في مناهج التعليم المبكر كبوابة للقيم والهوية، وعقد شراكات بين المؤسسات المحلية والدولية بهدف تنظيم مهرجانات وفعاليات تروج للتراث الإفريقي. 
هنالك الكثير مما يمكننا فعله، من أجل الحفاظ على هويتنا الثقافية وتراثنا المحكي، ولا يكفينا فقط أن نشعر بالقلق.