الأربعاء 19 نوفمبر 2025
هل يمكن لاغتيال قائد مقاوم أن يضع حدًّا لمسار تاريخي ظلّ يتشكّل عبر أجيال، أم أنّ كلّ رصاصة تطلقها يد الاحتلال تكتسب في الوعي الجمعي معنى يتجاوز اللحظة، ليتحوّل إلى شرارة جديدة تُشعل ذاكرة الجماعة بدل أن تخمدها؟ هذا السؤال ليس جديدًا في تاريخ الصراعات، بل يكاد يكون سطرًا متكرّرًا في كتابٍ طويل، يبدأ من ثورات العبيد في روما القديمة، ويمرّ بانتفاضات الفلاحين في أوروبا، ليصل إلى حركات التحرّر الوطني في القرن العشرين.
إن الضربة الإسرائيلية ليوم 9 سبتمبر/أيلول 2025 في قلب الدوحة، والتي طالت قيادات سياسية بارزة لحركة المقاومة الإسلامية حماس، لم تكن استثناءً في هذا السجل، بل امتدادًا لاستراتيجية استعمارية قديمة تقوم على الاعتقاد بأنّ "قطع الرأس يشلّ الجسد"، غير أنّ مسار التاريخ يُظهر أنّ اغتيال قادة المقاومة، بدل أن ينهي الحكاية، غالبًا ما يفتح فصولًا جديدة أكثر دراماتيكية، لأنّها تلمس جوهر فكرة المقاومة نفسها، أي ذلك التلازم بين الذاكرة والرمز والدم.
منذ أن جعل الاستعمار الحديث من الاغتيال أداةً سياسية، حاول تبرير ذلك باعتباره ضرورة لـ"إعادة النظام" أو "مكافحة التمرّد والإرهاب"، غير أنّ التجارب التاريخية تخبرنا بأنّ الرصاصة التي تُصوَّب نحو جسد القائد تخرج دومًا من برميلٍ محشوّ بأوهام السيطرة. ففي الجزائر كان الاستعمار الفرنسي يظنّ أنّ تصفية قادة جبهة التحرير الوطني ستقضي على الثورة في مهدها، لكنّ اغتيال العربي بن مهيدي عام 1957، بدل أن يُخمد الروح الثورية، جعله رمزًا خالدًا وملهمًا للأجيال، حتى أنّ المؤرخين رأوا في موته لحظةً فاصلة سرّعت تحوّل الانتفاضة إلى حرب تحرير شاملة -الثورة الجزائرية- أنهت 132 عامًا من الوجود الاستعماري الاستيطاني. المثال نفسه تكرّر في جنوب أفريقيا حين اغتيل كريس هاني سنة 1993، ظنّ القاتلون أنّهم بموته سيوقفون اندفاع حركة التحرير السوداء، لكنّ الجريمة فجّرت احتجاجات شعبية عارمة، وأرغمت النظام العنصري على تسريع مسار التفاوض، لينتهي حكم الفصل العنصري بعد عامٍ واحد فقط، وفي 10 مايو/آيار 1994 تم تنصيب نيلسون مانديلا أول رئيس أسود في بريتوريا.
استراتيجية استعمارية قديمة تقوم على الاعتقاد بأنّ "قطع الرأس يشلّ الجسد"، غير أنّ مسار التاريخ يُظهر أنّ اغتيال قادة المقاومة، بدل أن ينهي الحكاية، غالبًا ما يفتح فصولًا جديدة أكثر دراماتيكية
هذه الأمثلة التاريخية تدفعنا إلى التساؤل: لماذا تفشل سياسة الاغتيالات في تحقيق أهدافها؟ هنا يقدّم فرانز فانون في كتابه "معذّبو الأرض"، إطارًا تحليليًا عميقًا، فهو يرى أنّ العنف في سياق الاستعمار ليس ردّ فعل آني، بل هو وسيلة لاستعادة الكرامة المسلوبة، ورفضٌ جذريّ لزمن طويل من القهر، فـ"حين نثور، فذلك لأنّنا لم نعد قادرين على التنفّس". إنّه يربط المقاومة بالوجود نفسه، بمعنى يتجاوز الحياة الفردية إلى معنى الجماعة والتاريخ، وبهذا يصبح القائد الشهيد أكثر حضورًا بعد موته، لأنّ جسده الذي سقط في ساحة المعركة يتحوّل إلى نصّ مفتوح، يكتبه الشعب بدمه وذاكرته، لا بقرارات الجنرالات ولا باتفاقيات المؤتمرات.
في السياق الفلسطيني، يظهر هذا بوضوح منذ اغتيال الشيخ أحمد ياسين عام 2004، فقد راهنت إسرائيل على أنّ تصفيته ستقضي على بنية حماس التنظيمية، لكنّ ما حدث كان عكس ذلك: تحوّلت صورته إلى أيقونة في الوعي الجمعي الفلسطيني، وصار موته نقطة التقاء بين السياسي والرمزي والروحي، إلى درجة أنّ كلماته قبل اغتياله ــ "سياسة الاغتيال لن تنهي حماس… قادتنا يتمنّون الشهادة، والمقاومة ستستمر حتى ننتصر أو نستشهد" ــ بدت وكأنّها إعلانٌ عن فلسفة كاملة للمقاومة، فلسفة ترى في الموت عبورًا نحو ذاكرةٍ لا تموت.
يربط المقاومة بالوجود نفسه، بمعنى يتجاوز الحياة الفردية إلى معنى الجماعة والتاريخ، وبهذا يصبح القائد الشهيد أكثر حضورًا بعد موته، لأنّ جسده الذي سقط في ساحة المعركة يتحوّل إلى نصّ مفتوح، يكتبه الشعب بدمه وذاكرته
في كتابه الإنسان المتمرد، يقدّم ألبير كامو بعدًا فلسفيًا بالغ الأهمية لفهم هذه الظاهرة، فهو يرى أن التمرّد يبدأ كرد فعل على الظلم، لكنه سرعان ما يتخطى حدود الرفض الفردي ليصبح مطلبًا بالعدالة وبناء معنى جديد للعالم.
من هذا المنظور، ينقلب الاغتيال من انتصار للسلطة إلى اعتراف ضمني بعجزها، لأن قتل الجسد لا يقتل الفكرة التي أطلقت التمرّد من أساسه. ويؤكد كامو أنّ كل محاولة من السلطة لسحق التمرّد تزيده عنادًا وتخلق رموزه وشهداءه، الذين يتحوّلون إلى وقود لاستمرار المقاومة وتكريس مسارها.
بالإضافة إلى ذلك، يزيد البعد السياسي المشهد تعقيدًا وظلمة، إذ لم تكن محاولة اغتيال القادة في الدوحة فعلًا فرديًا يخص المقاومة فقط، بل قد يشكّل ضربة لجهود الوساطة التي لعبت قطر دورًا محوريًا فيها منذ بداية الحرب على غزة. ومن المتوقع أن تقوم الدوحة بتعليق المفاوضات بعد الضربة، كما يبدو أن إسرائيل لا تسعى فقط لتصفية الخصوم، بل تهدف أيضًا إلى إحراق الجسور الدبلوماسية، ما يجعل أي أفق لحل سياسي أكثر بعدًا وصعوبة وتعقيداً. ويشير التاريخ إلى أن مثل هذه الأحداث تؤدي إلى تآكل الشرعية الدولية، وتدفع الصراع نحو انسداد كامل، حيث يصبح الميدان وحده السيّد، ويغدو صوت الرصاص هو لغة التفاهم الوحيدة.
إعلانٌ عن فلسفة كاملة للمقاومة، فلسفة ترى في الموت عبورًا نحو ذاكرةٍ لا تموت
يمكن هنا أن نستحضر قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "نحن الضحية التي جربت فيها كل أنواع القتل.. حتى أحدث الأسلحة! لكننا الأعجوبة التي لا تموت، ولا تستطيع أن تموت"، هذه العبارة تكشف جوهر المسألة: كل اغتيال يتحوّل إلى عبء أخلاقي على الذاكرة الجمعية، إذ يترك موت القائد فراغًا لا يملأه الصمت، بل يغمره الغضب، ويتحوّل إلى رمز يثقل الوعي الجماعي، ويزيد الحنين إلى العدالة المفقودة. ومع تراكم هذه الذاكرة عبر الأجيال، يصبح من الوهم الاعتقاد بأن قتل الأجساد يكفي لطمس الأفكار، أو أن البنادق قادرة على إغلاق دفاتر التاريخ المكتوبة بمداد دماء المقاومين والشهداء.
في الأخير، تبدو سياسة الاغتيالات مهما بلغت دقّتها، عاجزة عن تحقيق ما تعد به، فالتاريخ يعلمنا: أنّ العدل الغائب لا يُعوَّض بالقوة، وإنّ القائد الشهيد يترك خلفه وصيّة حيّة لا يستطيع الاحتلال أن يصادرها.. وما لم تُعالَج جذور الصراع من استعمارٍ وحصارٍ وظلمٍ تاريخي، ستظلّ كلّ رصاصة تُطلق باسم "الأمن" تصنع أجيالًا جديدة تحمل السلاح لا لتثأر فقط، بل لتقول إنّ المعركة لم تنتهِ لأنّ العدالة لم تتحقق بعد.