الأربعاء 9 يوليو 2025
عاد موضوع الهجرة لصدارة الاهتمام العالمي في أفريقيا في الأسابيع الأخيرة، بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، بحديث عدد من وسائل الإعلام الغربية نقلا عن مسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب عن تفاوض، وحتى عن وجود اتفاقات، مع حكومات دول أفريقية لاستقبال مهاجرين ومرحليين من الأراضي الأمريكية.
يبدو أن الفكرة التي حاولت حكومات غربية تنفيذها، خصوصا في بريطانيا، وكانت سببا وراء استقالة وزراء من مناصبهم، وعاصفة هزت أكثر من حكومة في دوانينغ ستريت، قد راقت لإدارة ترامب الذي يسعى جاهدا لتنفيذها على أرض الواقع. طبعا، لا يعني ذلك أن هذه أول إدارة أمريكية سوف تتبني سياسة التهجير، إذ سبقت لذلك إدارات في فترات وسياقات مختلفة. لكن الجديد مع إدارة ترامب هو اختيار القارة الأفريقية وجهة للترحيل، لإنهاء "غزو" المهاجريين في بلد أقيمت أركانه على فكرة الهجرة.
زادت الإدارة الأمريكية الموضوع إثارة بقيامها، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الأمريكي، تعاكس مشروعها القائم على صد الأبواب في وجه المهاجريين، وتشديد القيود ضد طالبي اللجوء من دول فقيرة أو منكوبة، بقبول لاجئين بيض "الأفريكانيين" من جنوب أفريقيا، بدعوى مواجهتهم لتهديدات متزايدة بالعنف والتمييز العنصري هناك.
ما يثير تساؤلات جدية حول سياسة الأمريكية، خاصة في عهد ترامب، بشأن اللاجئين؛ هل تستند فعلا إلى اعتبارات إنسانية، وفق ما جاء في سياق تبرير استقبال الأفريكانيين من أقصى جنوب القارة الأفريقية أم أن الانطباعية والحسابات الإيديولوجية هي الضابط كما هو الحال في مشروع الترحيل نجو وجهات ثالثة لا صلة للمرحلين بها؟
وضعت إدارة ترامب استثناء لسياستها المتشددة في مجال الهجرة واللجوء، بعد إصدار الرئيس أمرا تنفيذيا في 7 فبراير/ شباط الماضي يدعو فيه إلى إعادة توطين أفراد من الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، من أحفاد المستوطنين الهولنديين الأوائل، ممن وصفهم قرار ترامب ب" ضحايا تمييز عنصري ظالم" منذ نهاية نظام الفصل العنصري.
فهم القرار يستدعي قراءته باعتباره جزء من فصول أزمة متعددة الجوانب بين واشنطن وبريتوريا منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، والتي وصلت درجة طرد السفير الجنوب أفريقي في مارس/آذار من واشنطن. ارتبط هذا التحرك بقانون إصلاح الأراضي الذي أعلن ترامب في حسابه على منصة تروث سوشيال أن "الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي، وسنتصرف"، مضيفا أن "جنوب أفريقيا تصادر الأراضي وتسيء معاملة فئات معينة من الناس بشكل سيئ للغاية".
لم يعِر الرجل بيان وزارة الخارجية الجنوب أفريقية اهتماما، والتي اعتبر القرار الأمريكي "تدخلا في شؤون دولة ذات سيادة، يغذي السرديات العنصرية". بل على النقيض تماما، واصل ترديد ما تروجه منظمة "أفري فوروم" اليمينية عن "التهديد الوجودي للأقلية البيضاء"، واعتبر في حديث للصحفيين أمام البيت الأبيض أن "ما يحدث في جنوب أفريقيا إبادة جماعية".
تطلب هذا الوضع "تحركا إنسانيا عادلا" من الإدارة الأمريكية لإعادة توطين هؤلاء، وتم عمليا الشروع في التنفيذ، بإعلان الإدارة الأمريكية يوم الإثنين 12 مايو/ آيار الجاري، عن وصول أولى الرحلات إلى مطار دالاس الدولي قرب العاصمة واشنطن، وعلى متنها 50 شخصا. وقد كان كريستوفر لاندوا، نائب وزير الخارجية الأمريكي، في طليعة مستقبلي "اللاجئين" الجدد القادمين من جنوب أفريقيا.
تأتي هذه الرحلة الأولى التي ستعقبها أخرى، حسب ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، متناغمة مع منظور واشنطن لمسألة الهجرة واللجوء، فما "يحدث في جنوب أفريقيا يتناسب مع السبب الرئيسي الذي تم من أجله إنشاء برنامج اللاجئين"، مضيفا في توضيح أكثر لدواعي الموقف الأمريكي "هذا اضطهاد على أساس خاصية مشمولة بالحماية، وهي في هذه الحالة العرق. هذا اضطهاد قائم على العرق".
لكن هذه السردية التي تحاول إدارة ترامب ترويجها لا تصمد كثيرا أمام المعطيات والأرقام التي كشفت عنها حكومة رامافوزا، فمعظم الأراضي لا تزال في ملكية البيض، ومتوسط ثروتهم نحو 20 ضعفا مقارنة بالسود. فضلا عن سيطرتهم على نحو 62٪ من المناصب العليا في القطاع الخاص مقابل 17٪ فقط للسود. وحتى ما تقدمه منظمات مثل "أفريفوررم" عن القتلى في صفوف المزارعين، فالرقم لا يتعدى 60 حالة، في بلد يشهد نحو 19 ألف جريمة قتل سنويا.
تتشابك العديد من الأسئلة بشأن واقعة استقبال هؤلاء "اللاجئين"، رغم عدم انطباق هذا الوصف عليهم، لعل أبرزها السرعة القياسية التي لم تتعد ثلاثة أشهر بغية الحصول على صفة "لاجئ". وقبل ذلك انقلاب القواعد، فالأصل أن الأشخاص من يبحثون عن بلد تقبلهم لاجئين، وليس البلد – كما هو الأمر في نازلة الحال – حيث تقوم الولايات المتحدة بالبحث بنفسها عن لاجئين من أجل استقبالهم؟
أيا تكن المبررات التي تسوق لإلباس الأفريكانيين عباءة اللاجئين، فحتما ستكون غير مقنعة لا سيما مع الإدارة الأمريكية الحالية، فالقيم والمبادئ والشعارات أخر ما يهم الماسكين بزمام السلطة في البيت الأبيض. كل ما هناك أن ترامب يحاول توجيه رسالة مباشرة إلى جنوب أفريقيا، بسبب تحركاتها على أكثر من صعيد (البريكس، العدل الدولية...) دون تشاور أو تنسيق مع واشنطن، أو حتى بعيدا عن عباءتها.
لم يكتف الرئيس ترامب بتشديد القيود في مجال الهجرة واللجوء انسجاما مع قناعاته اليمينية المتشددة، بل حاول أكثر من ذلك تنفيذ وعوده ب"تطهير" المجتمع الأمريكي، وعاد من أجل ذلك إلى إرث أسلافه، فاستعاد أسلوب الترحيل الذي دشنت الولايات المتحدة العمل به منذ ثلاثينيات القرن الماضي خلال فترة الكساد الكبير، بإقدامها على ترحيل المهاجرين المكسيكيين، المعروفة باسم "العودة إلى المكسيك"، بما في ذلك حاصلون على الجنسية الأمريكية.
خيار يبقى مقبولا إلى حد بعيد، فعملية الترحيل بإعادة الأفراد إلى موطنهم الأصلي عرف جاري به العمل في العلاقات بين الدول. لكن الجديد في برنامج الترحيل "الطوعي"، كما تطلق عليه الإدارة الأمريكية، التي وعد رئيسها خلال حملته الانتخابية بتنفيذ أكبر عملية ترحيل جماعي في تاريخ الولايات المتحدة، هو تفاوض واشنطن مع دول ثالثة لاستقبال المهاجرين غير بلدهم الأم.
فقد نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولون في إدارة ترامب عن إطلاق مفاوضات مع أكثر من دولة، حتى يصبحوا شركاء الولايات المتحدة في تنفيذ هذا البرنامج، بقبول تحولها إلى وجهات لاستقبال هؤلاء المهاجريين غير النظاميين، بما في ذلك ذوي السوابق والسجلات الإجرامية. وذكرت الصحفية أن القائمة تضم عددا من الدول الأفريقية منها: ليبيا ورواندا وبنين وإسواتيني.
المثير في هذه الخطوة أن الاختيار وقع على دول غير مستقرة مثل ليبيا، في محاولة نفسية لتأثير على المهاجرين بثنيهم عن فكرة القدوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مخافة أن ينتهي بهم المطاف في دول ربما أكثر اضطرابا من بلدانهم الأصلية
لقد سبق للرئيس الأمريكي أن وقع أمرا تنفيذا أطلق بموجبه البرنامج الفدرالي للترحيل الذاتي، الذي يشمل تذاكر طيران مجانية ومكافأة مالية تدفع لأي شخص يختار مغادرة الولايات المتحدة طوعا وبشكل دائم. وأعقبه بتعليق على حسابه في تروث سوشيال تتراوح لغته بين الترغيب والتهديد، فكتب يقول: "إن المهاجرين غير الشرعيين الذين يبقون في أمريكا سيواجهون عقوبات تشمل الترحيل المفاجئ، في الوقت والمكان وبالطريقة التي نختارها. إلى كل المهاجرين غير الشرعيين: احجزوا رحلتكم المجانية الآن!".
تدشن إدارة ترامب بهذا توجها جديدا في موضوع الهجرة، بترحيل المهاجرين عير النظاميين إلى دول لا تربطهم بها أية علاقة. لكن المثير في هذه الخطوة أن الاختيار وقع على دول غير مستقرة مثل ليبيا، في محاولة نفسية لتأثير على المهاجرين بثنيهم عن فكرة القدوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مخافة أن ينتهي بهم المطاف في دول ربما أكثر اضطرابا من بلدانهم الأصلية.
تتناقض الإدارة الأمريكية مع نفسها بهذه القرارات المضطربة، فأفريقيا غير آمنة بالنسبة للأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا ما يستدعي التدخل من أجل بشكل عاجل من أجل "إنقاذهم" من اضطهاد السود الذي يتردد في واشنطن. لكنها في المقابل تصلح، بحسب الإدارة الأمريكية دائما، وجهة يمكن تصدير المهاجرين غير النظاميين إليها، دون أدنى اعتبار للمبادئ والقيم والشعارات التي فرضت التحرك من أجل استقدام الأقلية البيضاء من جنوب أفريقيا.