الخميس 15 مايو 2025
بعد إصدار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في يناير/ كانون الثاني الماضي، مرسوما تنفيذيا يُوقف عمل الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) لثلاثة أشهر، وفي غمرة النقاش داخل البيت الأفريقي عن البدائل، على اعتبار أن دول القارة من أكبر المستفيدين تمويل الوكالة، جاء قرار الرئيس إنهاء مبادرة "باور أفريكا" (Power Africa)، وفقا لوكالة بلومبيرغ التي نقلت عن مسؤولين أمريكيين وقف البرنامج وفصل غالبية موظفيه.
بين القرارين، وقّع ترامب في 7 فبراير/ شباط، أمرا رئاسيا يقضي بوقف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا، وذلك عائد، حسب بيان البيت الأبيض، إلى "قانون مصادرة الأراضي" (2024) في جنوب أفريقيا، وقضية "الإبادة الجماعية" المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. وذكر البيان أن "الولايات المتحدة لا تستطيع دعم انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومة في جنوب أفريقيا على أراضيها، فضلا عن تقويضها للسياسة الخارجية الأمريكية والتهديد الأمني الذي تشكله لحلفائنا".
يدير ترامب ملفات الدبلوماسية الأمريكية في أفريقيا بمنطق رجل الأعمال، فعيون الرجل لا تبحث سوى عن العوائد والأرباح المباشرة. وهذا الأخير ما لا تكشف عنه الأرقام بالنسبة لزعيم الجمهوريين، الذي يرى في 60٪ من المساعدات الخارجية التي تديرها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إهدارا لمال الشعب الأمريكي بلا طائل ولا فائدة.
تحظى العديد من المناطق في أفريقيا بحصة معتبرة من أموال الوكالة، فبلدان أفريقيا جنوب الصحراء مثلا بلغت حصتها من مساهماتها، خلال الأربع سنوات الماضية (2020-2024)، ما بين 10 و13 مليار دولار، مسجلة ارتفاعا يقارب ضِعف ما تلقت خلال عقد كامل؛ حيث انحصرت إجمالي المساعدات ما بين 6 و12 مليار دولار خلال فترة 2010-2020.
نجد في قائمة الدول العشرة الأكثر استفادة من المساعدات، برسم عام 2023، ستة دول من أفريقيا، هي تباعا: إثيوبيا والكونغو الديمقراطية والصومال وجنوب أفريقيا ونيجريا وجنوب السودان، بزيادة دولة أفريقية مقارنة مع العام السابق، حيث ضمت اللائحة كلا من: نيجيريا (622 مليون دولار) وموزمبيق (564 مليون دولار) وتنزانيا (560 مليون دولار) وأوغندا (559 مليون دولار) وكينيا (512 مليون دولار).
يدير ترامب ملفات الدبلوماسية الأمريكية في أفريقيا بمنطق رجل الأعمال، فعيون الرجل لا تبحث سوى عن العوائد والأرباح المباشرة
أما مبادرة "باور أفريكا" الذي أطلقت، عام 2013، في عهد الرئيس باراك أوباما، من أجل تسهيل تأمين شبكات الكهرباء في الدول الأفريقية التي تعاني من نقص حاد في الطاقة، واستهدفت تزويد 60 مليون منزل وشركة في القارة بالكهرباء، مع التركيز على مصادر الطاقة المتجددة، مثل: الطاقة الشمسية والرياح.
رصد البيت الأبيض مبلغا بقيمة 7 مليارات دولار لهذه المبادرة الرامية إلى "مضاعفة نسبة الارتباط بالتيار الكهربائي في أفريقيا"، فحينها كان أكثر من ثلثي السكان في أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون دون كهرباء. يهدد قرار ترامب بحرمان نصف السكان البالغ عددهم حوالي 1,3 مليار نسمة إلى الوصول إلى الكهرباء.
ضرائب الشعب الأمريكي تهدر على "الحثالة" في أفريقيا، وفق تعبير الرئيس "المخبول" في ولايته الأولى، ما يحتم التدخل لاستعادتها، بغية صرفها على الشعب الأمريكي. لكن ترامب ينسى أو يتناسى أن منطق السياسة غير حسابات التجارة، فالوكالة التي أنشأتها جون كيندي عام 1961، وحولها الكونغريس لمؤسسة مستقلة بصلاحيات أكبر عام 1998، وتعاقب على نشاطها بلا توقف أكثر من عشر رؤساء، تعتبر أحد أقوى الأدوات الناعمة للسياسية الخارجية الأمريكية، لا بل أقوها على الإطلاق بالنظر إلى حضورها الوازن في مختلف أصقاع العالم (120 دولة في العالم).
تسحَب واشنطن أدواتها الناعمة في أفريقيا التي تشهد صراعا حامي الوطيس على النفوذ، بين القوى الكبرى في العالم، لتترك الساحة للصين وروسيا وتركيا وغيرهم، ممن يبحثون عن هكذا فراغ قصد ملئه، فالطبيعة لا تقبل الفراغ. وبالمقابل، تؤكد عزمها كسب الحرب التجارية ضد هؤلاء. فكيف يُعقل أن تنسحب في جبهة تحسب لصالحها منذ عقود لصالح معركة أخرى (الرسوم الجمركية) تعلم يقينا أن الخسائر فيها متبادلة. الجواب، وباختصار، هو تدبير السياسة بأسلوب التجارة.
تحدث سيريل رامافوزا، رئيس جنوب أفريقيا، في 27 فبراير/ شباط، على هامش مؤتمر نظمه بنك غولدمان ساكس الأمريكي في جوهانسبرغ، عن رغبته في "إبرام صفة" مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وأضاف في ما يشبه الفهم الدقيق لتعاطي الرئيس 47 للولايات المتحدة الأمريكية مع الأمور؛ فالرجل لا يبالي بالمبادئ أو القناعات، قائلا: "لا نريد الذهاب وشرح موقفنا. نريد الذهاب وإبرام صفقة جادة مع الولايات المتحدة بشأن مجموعة واسعة من القضايا".
ضرائب الشعب الأمريكي تهدر على "الحثالة" في أفريقيا، وفق تعبير الرئيس "المخبول" في ولايته الأولى، ما يحتم التدخل لاستعادتها، بغية صرفها على الشعب الأمريكي. لكن ترامب ينسى أو يتناسى أن منطق السياسة غير حسابات التجارة
خلافا لمنطق التجارة الصرف الذي يرى به ترامب علاقات واشنطن مع معظم دول القارة، تكتسي العلاقة مع بريتوريا سمة خاصة، يغديه وجود إيلون ماسك، وثلة أخرى من مواليد جنوب أفريقيا في الدوائر الضيقة لصنع القرار في الإدارة الأمريكية، فالتقارير تتحدث عن عدد غير مسبوق منهم يدورون في فلك الرئيس، ويؤثرون فيه منهم مجموعة ما يطلق عليه "مافيا باي بال"؛ من الشخصيات التقنية التي نجحت في أمريكا إلى إلى رجال السياسة والإعلام (رولوف بوتا وديفيد ساكس وجويل بولاك...) وصولا إلى الرياضيين (غاري بلاير)، وكلهم أصحاب مصالح قوية جدا في موطنهم الأصلي جنوب أفريقيا.
ربط الكثيرون قرار ترامب بتحرك بيرتوريا ضد إسرائيل أمام المحاكم الدولية، لكن ليس بتلك الأهمية، لأن جذور الأزمة تعود لما قبل ذلك. فامتعاض الأقلية البيضاء من سياسات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قديم، فخلال عام 2023 حاول الكونغريس الأمريكي تمرير قانون الاستبعاد جنوب أفريقيا من قانون النمو والفرص الأفريقي (AGOA)؛ وهو اتفاق تجاري يمنح الكثير من المنتجات ميزات تفضيلية في الأسواق الأمريكية، بمبرر انتهاج سياسات معادية لواشنطن قبل التراجع عنه.
اهتدى ترامب إلى إشهار سلاح العقوبات ضد جنوب أفريقيا من أجل حماية مصالح إيلون ماسك وعشيرته من أحفاد المستوطنين، فقد اتهم حكومة البلاد "بمصادرة الأراضي، وإساءة معاملة فئات معينة من الناس"؛ والقصد هنا 9 ٪ من البيض التي تستحوذ على 75٪ من الأراضي الزراعية، رغم تأكيدات المسؤولين أن القانون لا يقيم أي تمييز بين المواطنين (البيض/ السود). لأن ورقة المساعدات، وبخلاف قانون الاستبعاد سابقا، ذات تأثير فعال ومباشر على الفئات الفقيرة والمهمشة (نسبة البطالة 33٪) في المجتمع الجنوب أفريقي.
خلافا لمنطق التجارة الصرف الذي يرى به ترامب علاقات واشنطن مع معظم دول القارة، تكتسي العلاقة مع بريتوريا سمة خاصة، يغديه وجود إيلون ماسك، وثلة أخرى من مواليد جنوب أفريقيا في الدوائر الضيقة لصنع القرار في الإدارة الأمريكية
يسعى الرجل أيضا، وبشكل غير مباشر، إلى إخطار جنوب أفريقيا؛ أن واشنطن لن تبقى في موقع الشريك التجاري الثاني لبريتوريا، ناهيك عن الحرمان من مساعدات يتوقع وصولها 439 مليون دولار خلال العام الجاري، متى سايرت مساعي "خصومه" في مجموعة البريكس بإنشاء عملية بديلة عن الدولار، فرسائل رامافوزا في قمم البريكس بعدم تبني بلاده سياسات معادية للغرب لم تقنع ترامب، ما يعني أن رسوما جمركية بنسبة 100٪ تنتظرها في حال تخلت عن الدولار.
خرج الرئيس الكيني الأسبق أوهورو كينياتا، بعد قرار دونالد ترامب، لاستنهاض همم الأفارقة قادة وشعوبا، "دعونا نقف على أقدامنا. لماذا تبكون؟ فهذه ليست حكومتكم وهذا ليس بلدكم. ولا يوجد لديه (يقصد ترامب) أي سبب لمنحكم شيئا ما. فأنتم لا تدفعون ضرائب في أمريكا. وهذا منبه لتستيقظوا وتتساءلوا: ماذا نفعل نحن لنساعد أنفسنا؟".
في ثنايا كلام الزعيم الكيني سؤال طالما تجاهله الجميع، هل تحتاج أفريقيا حقا إلى المساعدات الخارجية بشكل مستمر؟ بصيغة أخرى، أليس بمقدور القارة إيجاد حلول تنموية مستدامة بعيدا عن الارتباط بالخارج؟ وهل هذه الملايين من الدولارات التي تتدفق إلى مختلف جهات القارة بشكل سنوي مجانية حقا؟
تعمَد الدول الكبرى إلى أسلوب المساعدات لتحقيق مآرب شتى في هذه البلدان، فبهذه الأداة تحافظ على الولاءات والنخب السياسية، وتكرس الأنظمة الفاسدة في هذه الدول، ما يجعلها طيعة أمام المانحين، فهُم أولياء نعمتها. ذلك ما يُترجم إلى مكاسب ملموسة مثل: الدعم والتأييد في المحافل الدولية، وفسح المجال لإقامة قواعد عسكرية، فضلا عن ضمان الامتيازات التجارية، وسهولة الوصول إلى المعادن والموارد الطبيعية وغير ذلك.
زيادة على كون ما يبدو في الظاهر عملا إنسانيا، يخدم في الباطن مصالح المانحين عبر دعم مزارعيهم، بتحويل هذه الدول إلى سوق مثالية لتصريف فائض الإنتاج الزراعي والصناعي فيها، عبر تقديمه على شكل مساعدات غذائية للشعوب الأفريقية
تمثل المساعدات أسلوبا ناعما للتغلغل في الأسواق الأفريقية، فمبادرة "باور أفريكا" على سبيل المثال كعكة بعوائد مغرية، تولت شركات أمريكية، مثل "جنرال إلكتريك" و"سيمبيون باور"... ناهيك عن اعتماد شركات محلية، مثل "مانا نوتريشن" (Mana Nutrition) على عقود توريد مع وكالة التنمية الأمريكية بنسبة 98٪ في مصنع جورجيا.
زيادة على كون ما يبدو في الظاهر عملا إنسانيا، يخدم في الباطن مصالح المانحين عبر دعم مزارعيهم، بتحويل هذه الدول إلى سوق مثالية لتصريف فائض الإنتاج الزراعي والصناعي فيها، عبر تقديمه على شكل مساعدات غذائية للشعوب الأفريقية، ما يؤثر بمرور الوقت على تطور الإنتاج المحلي، حيث تتراجع القدرة على الإنتاج بالاعتماد أكثر على الاستيراد.
أمام أفريقيا فرصة تاريخية لإسقاط العباءة الأمريكية، ولما لا حتى الدولية، باستثمار التنافس المحتدم على القارة لخدمة شعوب وبلدان القارة، بعيدا عن استجداء وتسول المساعدات؛ فلدى القارة من الموارد الطبيعية والبشرية والقدرات والمؤهلات، ما يجعلها قادرة على مواجهة الأزمات الداخلية دون حاجة لمَنٍ من أحد. فما على القادة والزعماء بالقارة سوى استغلال الفرص والإمكانات التي يكشف عنها النظام الدولي المتذبذب، والصراع المحتدم بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة، لتحقيق مصالح البلدان والشعوب الأفريقية.