تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 5 ديسمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

إفريقيا.. مستقبل القارة رهين إرادة الأفارقة 

17 أكتوبر, 2024
الصورة
AFRICA HUMAN MAP
(صورة من شترستوك)
Share

تحولت إفريقيا من جديد إلى رقعة صراع وتجاذب بين الدول الكبرى، وكأنّ الزمن عاد بها إلى الوراء مع بدايات الغزو الاستعماري الأوروبي للقارة، فاستعاد الأفارقة السمفونية القديمة التي صيّرت الآخر مشجبا يعلقون عليه مشاكلهم وأزماتهم. جعل التكالب على المؤهلات والموارد إفريقيا قارة مستباحة من القوى التقليدية والصاعدة على حد سواء، فالكل يبحث عن موطئ قدم، بالقوة الناعمة وحتى الخشنة إن اقتضى الحال ذلك، في مختلف مناطق القارة. 

طالما وجَّه الأفارقة، زعماء وشعوبا، أصابيع الاتهام إلى المستعمر/الأجنبي، فهو المسؤول عما حدث ويحدث في إفريقيا، بسبب النهب والاستغلال المستمرين على مدار قرون من الزمن. صحيح أن القارة تحررت من الاستعمار المباشر، لكن الاستعمار غير المباشر (الاقتصادي والثقافي واللغوي...) ظل جاثما عليها، بأساليب أغلبها خفي لا تدركه الأعين. 

تحمل هذه السردية الكثير من الوجاهة والصحة، إلا أنها في الوقت نفسه محل أسئلة كبرى، من شأن النظر فيها، بحذاقة وتمعن، فسح المجال لزوايا نظر جديدة، واكتشاف حقائق أخرى غير تلك الرائجة في التداول العمومي عن إفريقيا وحولها. لا سميا بعد تعاقب الأحداث والوقائع، هنا وهناك في بقاع القارة، التي تثبت أن دواء العطب القديم بِيد بنات وأبناء إفريقيا وحدهم. 

لا خلاف أن القارة كانت باستمرار الوجهة المفضلة لأي قوة ظهرت على مسرح الأحداث في العالم، منذ القرن الخامس عشر، وربما حتى قبله، وإن كان تاريخ إفريقيا، بحسب المؤرخين الأوروبيين، محصورا في حقب ثلاثة لا غير: حقبة طويلة قبل الاستعمار، وحقبة استعمارية قصيرة نسبيا، وحقبة ما بعد الاستعمار الحالية. كانت تبريرات زمن الاستعمار إلى حد ما مقبولة، بخلاف الوضع في الحقبة الراهنة، حيث النصيب الأكبر من المسؤولية على عاتق الأفارقة أولا وأخيرا. 

سقطات بأيادي إفريقية  

بعيدا عن تدخل الأيادي الخارجية في الشؤون الداخلية الإفريقية، تمت أمثلة عديدة عن إخفاقات إفريقية محلية "الصنع" وذاتية "المنشأ"، فليس كل ما يجري داخل بلدان القارة بفعل فاعل أو نتيجة لسبب أجنبي. تتعدد الأمثلة والشواهد على أن الأفارقة؛ أنظمة وشعوبا، يوَّقعون أنفسهم بأنفسهم في الويلات، حائلين بمثل هكذا قرار أو اختيار بينهم وبين انطلاقة قرن البزوغ الإفريقي.  

لا تزال التجارة البينية الإفريقية ضعيفة، رغم التوقيع في مارس/ آذار 2018 على اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية (AFCFTA) لتشكيل أكبر منطقة تجارة حرة في العالم. بعد أربع سنوات على دخولها حيز التنفيذ، مطلع عام 2021، لا تزال الأرقام والمؤشرات حول واقع التجارة البينية الإفريقية متواضعة، إذ لا تتعدى أقل من 20٪ فقط من إجمالي التجارة، ما يشكل هدرا مباشرا للإمكانيات التنموية الهائلة للقارة. إن كان هذا حال التبادل التجاري، فماذا عن فتح الحدود المغلق بين الدول 54 للأفراد من أجل التنقل بحرية مطلقة في ربوع القارة؟ 

تُعد السلطوية داء متأصلا في إفريقيا، وإخفاقا محليا لا يد فيه للأجانب، وإن كان استمرارها وتجذرها غالبا مقرون بدعم هؤلاء ومساندتهم. يتنافس زعماء القارة على صدارة قائمة أطول الرؤساء حكما في العالم؛ فرئيس غينيا الاستوائية؛ يودرو أوبيانغ نغويم، بإنهاء هذه الولاية الرئاسية يقترب من إتمام نصف قرن في السلطة (منذ 1979)، يليه الرئيس الكاميروني بول ويا الذي أمضى 42 عاما في الحكم. يتطلع يوويري موسيفيني في أوغندا إلى ختم ولايته السادسة في الحكم، مطلع العام القادم (منذ 1986). أما إسيسا أفورقي في إيريتريا فأمضى ثلاثة عقود في الحكم، وبجواره من جهة الجنوب، يحكم إسماعيل عمو جيلي جيبوتي 25 عاما. 

سلطوية تمنح المشروعية لإخفاق آخر يلاحق إفريقيا، إنه حمى الانقلابات التي انتعشت في السنوات الأخيرة، لا سميا بمنطقة غرب إفريقيا، حيث استثمر عسكريون تنامي مشاعر الغضب ضد المعسكر الغربي، تحديدا فرنسا ثم الولايات المتحدة، إلى جانب معضلات الهشاشة الأمنية، وفشل الدول في التصدي للتنظيميات المسلحة، فدبروا انقلابات عسكرية ضد الأنظمة المدنية المنتخبة، مقدمين أنفسهم الحل السحري لمشاكل العباد وآفات البلاد. لكن الأشهر والسنوات تمر دون أن يتغير شيء على أرض الواقع، بل يزداد الوضع سوء وقتامة، كما حدث في مالي الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، بعدما صارت أماكن حيوية في العاصمة باماكو هدفا لهجمات المسلحين. 

ما أكثر الأمثلة عن هذه الإخفاقات التي تبقى فشلا ذاتيا صرفا لا دخل للغير فيه، فأوروبا التي تتخذها إفريقيا نموذجا تسعى لتكراره، وحتى تجاوزه إن رغبت في ذلك، بالنظر إلى الإمكانيات الطبيعية والمؤهلات البشرية، قرّرت بملء إرادتها، قبل 40 عاما التوقيع على اتفاقية شنجن، في يونيو/ تموز 1985، في بلدة شنغن في لوكسمبورغ، فتحت الحدود في نطاق جغرافي يقدر ب 4,3 مليون كلم مربع للتجارة، ولنحو 420 مليون نمسة، يتكلمون 24 لغة رسمية، لتكسب من وراء ذلك مغانم كثيرة. 

قيد الأوروبيون هذه الغنائم بقيود متوافق عليها بينهم، فالتداول السلمي على السلطة، وفق القواعد الديمقراطية، شرط أساسي في النادي الأوروبي، ما يعني إسقاط شرعية الجيوش في الحكم. فضلا عن أن الوفاء لنتائج الانتخابات إجباري أيا كانت النتيجة، ولنا في صعود متطرفي اليمين القوميين الشعبويين، ممن باتوا يشكلون خطرا على الديمقراطية مثالا على ذلك، فلا الجيش تحرك للإطاحة بهم، ولا القوى السياسة انتفضت ضدهم، لأن الإجماع قائم على أن الآليات التي أسندت لهم السلطة عينها سوف تنزعها منهم بشكل سلمي. في كل هذا عِبر وعظات لإفريقيا والأفارقة حتى لا يخلفوا موعدهم مع التاريخ، إن هم رغبوا في جعل القرن الحالي قرن إفريقيا. 

نجاح إفريقي يكسر القاعدة 

توارد الأحداث من حين لآخر في هذا البلد أو ذاك، يعزز الأمل بتحقق هذه الإمكانية، ففي مناطق مختلفة من القارة تجارب ناجحة، رغم قلتها، يمكن أن تشكل أساسا ملهما تحاكيه بقية الدول في تدبير خلافاتها، بعيدا عن أتون الفوضى والاضطراب أو الحماية بالأجنبي واستدعائه ضد أبناء الوطن، أو حتى ويلات الإحتراب الداخلي الذي يشرد الشعوب ويمزق الأوطان. 

هناك في الغرب الإفريقي، تُقدم السنغال دروسا في الديمقراطية في إقليم عاصف ومضطرب، فعلى مدار العام الجاري تتدافع النخب السياسية في البلاد صونا للديمقراطية، منذ انحياز الرئيس الأسبق ماكي سال نحو الاستبداد، بقراره تأجيل الانتخابات، أعقبه تدخل المجلس الدستوري لإسقاط القرار، مؤكدا ضرورة التقيد بالموعد الانتخابي (24 مارس/آذار). ثم فوز مرشح المعارضة؛ باسيرو فاي، بعد أسابيع قليل من مغادرته السجن، في رئاسيات سجلت نسبة مشاركة بلغت 62 ٪. 

لم يتوقف تدافع القوى السياسية بأساليب مشروعة ومقبولة، بل ازدادت حدته مع تولي الرئيس مقاليد السلطة، بعد توافق طيف من الأحزاب السياسية على تشكيل جبهة موحدة للمعارضة ضد الرئيس الجديد، أعقبها رفض مشروع التعديل الدستوري، ما حدا بالرئيس إلى الإعلان عن حل الجمعية الوطنية، في 12 سبتمبر/ أيلول الماضي، والدعوة إلى تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. 

طبعا جرّب السنغاليون في الولاية الثانية من حكم الرئيس ماكي سال العنف والفوضى، لكنهم أدركوا أن المآل هو الخراب والهلاك، فجنحوا جميعا للقواعد الديمقراطية واللعب النظيف في السياسة دون تدخل للجيش في شؤون السلطة، وحتى محاولات التدخل الأجنبي ( فرنسا تحديدا)، فقد ظلت في نطاق محدود، ومن وراء الكواليس مع أحزاب من المعارضة، أو لنقل أن التدخل كان متناغما مع القواعد التي تضبط إيقاع اللعبة السياسية بين مختلف الفرقاء في السنغال. 

في الشرق الإفريقي قصة مماثلة، فمطلع الصيف الماضي، تفجرت مظاهرات شعبية في كينيا بسبب رفض الكينيين مشروع قانون المالية، الذي يفرض رسوما ضريبية على مجموعة من المنتجات والخدمات اليومية، ما يثقل كاهل المواطن البسيط. وفاقم تصويت البرلمان، حيث الأغلبية للتحالف الديمقراطي المتحد؛ حزب الرئيس وليام روتو، الأوضاع، ما دفع المحتجين إلى اقتحامه، وإضراب النار فيه. 

أصبحت كينيا على موعد المجهول بسبب انتفاضة الضرائب، بعدما تصاعد منسوب العنف في البلد بشكل غير مسبوق، ما دفع الرئيس إلى التجاوب مع المنتفضين، في سيناريو عادة ما لا نسمع عنه إلا في البلدان الأوروبية، فقرر سحب المشروع بشكل نهائي، غير مبال بخطاب التخوين والعمالة التي نعت به ساسة وإعلاميون الشباب المحتجين.  

وفي فصل جديد لا تزال أطواره مستمرة عن الديمقراطية الكينية، صوّت البرلمان الكيني، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بأغلبية الأعضاء (282/349) على عزل نائب الرئيس، ريغاثي غاشاغوا، المتهم في قضايا فساد، فزعيم الأغلبية في البرلمان اعتبر أن نائب الرئيس "لم ينتهك مادة واحدة، بل ثمانية أحكام في دستورنا". 

وقائع أبعد ما تكون عن دولة من الشرق الإفريقي، فالسائد في مثل هكذا حال أن تقمع المظاهرات مهما كانت التكلفة، بدعوى الاعتداء على المؤسسات وتخريب الممتلكات العمومية وإثارة الشغب... وهلم جرا من التهم المعروفة بالنسبة للمتظاهرين. أما نائب الرئيس فلا حاجة إلى كل هذا الضجيج، فإشارة من الرئيس كافية للقذف به في غيابات السجن سنين عددا. 

إنها إفريقيا وهؤلاء أفارقة يصنعون النجاح والتميز، على غرار بقية الأمم والشعوب لا فرق، متى حضرت الإرادة الذاتية، فالإخفاق والفشل ذاتي، أما الأجنبي فلا يتجرأ على المبادرة والتحرك ما لم يستشعر وجود القابلية لدى الأفارقة.