الثلاثاء 24 يونيو 2025
لم تكن أفريقيا، في المخيال القديم، مجرّد إقليم جغرافي بل كانت صورة ذهنية، وإسقاطًا رمزيًا لـ "آخر". ففي نظر الإغريق، تمتدّ خلف الصحراء و"أعمدة هرقل" أرضٌ غريبةٌ تتلاشى فيها القوانين البشرية لتفسح المجال للتوحّش والغرابة والقداسة. أفريقيا هذه، التي كانت أكثر تخيّلًا منها مشاهدة، غذّت خيال الجغرافيين والشعراء والفلاسفة في المتوسّط القديم الباحث عن الآخر المختلف. إنها موطن لشعوب تعيش في الكهوف ونساء محاربات وكائنات هجينة، وأصوات موسيقية ليلية تنبعث من اللامكان، وغابات مسكونة، وكلها مؤشرات على تجاوز عالم التحضّر إلى عالم حدودي مقلق وجاذب في آنٍ معًا.
في هذا السياق المتشابك من الصور والروايات، تبرز رحلة حنّون، ذلك النصّ اليوناني القصير الذي يروي بعثة قرطاجية على طول السواحل الغربية لأفريقيا. ولئن اعتُبر طويلاً مجرّد دفتر ذكريات، فإنّه، كما يُظهر كريستيان جاكوب بذكاء، يستحق قراءة رمزية وتأويلية. فخلف خطّ السير الظاهر ووصفه الموجز، تتشكّل جغرافيا للآخر: كلّما تقدم الرحّالة نحو الجنوب، اشتدّت الغرابة وتحوّل اللقاء من الغريب إلى المفزع، ومن التواصل إلى الذعر، حتى انهارت الحدود الأنثروبولوجية ذاتها.
هكذا تتحوّل أفريقيا، في رحلة حنّون، إلى مسرح لاختبار الهوية. إنها مكان لعبور العتبات: بين اليابسة والبحر، بين الطبيعة والثقافة، بين الإنسان والحيوان، بين الأسطورة والواقع. إنها لا تخبرنا كثيرًا عما كانت عليه أفريقيا في نظر القدماء، بقدر ما تكشف عن دلالة "الآخر" - الوحشي، غير القابل للترويض، المهدِّد - في الوعي الثقافي الإغريقي. إن بعث "أفريقيا المتخيلة" في جوهره مساءلة لمفاهيم الإنسانية ذاتها في الفكر القديم، وتبيّنٌ لكيف يتداخل الخيال والأسطورة والجغرافيا في إنتاج رؤية للعالم على تخوم المعرفة وحدود المعقول.
لم تكن أفريقيا، في المخيال القديم، مجرّد إقليم جغرافي، بل كانت صورة ذهنية، وإسقاطًا رمزيًا لـ'آخر'
نُشر مقال "على تخوم الإنسانية: شعوب ومناظر أفريقية في رحلة حنّون" للباحث الفرنسي كريستيان جاكوب ضمن العدد 121-122 من مجلة "دفاتر الدراسات الأفريقية" عام 1991، في ملف خصّص لموضوع "اللعنة". يتناول المقال بالنقد والتحليل نص "رحلة حنّون"، أحد أقدم النصوص التي تصف أفريقيا في الأدب الكلاسيكي، ويقدّمه لا كمجرد وثيقة جغرافية أو تاريخية، بل كنصّ ثقافي مُركّب يعكس تمثلات العالم الإغريقي عن "الآخر الأفريقي". في سياق الاهتمام الحديث بآليات بناء التمثلات الثقافية وصناعة الغيرية، يكتسب هذا المقال راهنية خاصة، إذ يكشف عن الأبعاد الرمزية والأنثروبولوجية لواحد من أقدم النصوص حول أفريقيا المكتوبة من خارجها.
تُقدّم رحلة حنّون على شكل دفتر ملاحظات لملك قرطاجي خرج لتأسيس مستوطنات بعد عبور "أعمدة هرقل"/جبل طارق. والنص مكتوب باليونانية، ويُفترض أنه ترجمة لنصّ فينيقي، لكن هذا التفصيل يُهمل كثيرًا. ويرى جاكوب أن النصّ يوناني، ليس فقط من حيث اللغة، بل أيضًا من حيث الأفق الذهني والإطار الثقافي. فخلف مسار الملاحة الظاهر، هناك حبكة تصوّرية عن الغربة والتدرج من المألوف نحو المروّع.
منذ السطور الأولى، ندرك أننا لسنا أمام مجرد رحلة استكشافية، بل أمام عبور رمزي إلى عوالم أخرى. إذ يُمثّل اجتياز "أعمدة هرقل" خروجًا من عالم البشر إلى فضاء مقلق وغير مألوف. وكل مدينة أُسّست، وكل شعب صادفوه، وكل مشهد طبيعي مرّوا به، كان يرسم خريطة ذهنية للغرابة في المخيال الإغريقي.
انقطاع الخبز في الرحلة لا يعني فقط نهاية المؤونة، بل انقطاع الصلة بالحضارة والإنسانية ذاتها
يقترح جاكوب قراءةً تفكّك البنية الرمزية للنص بدلًا من الاكتفاء بالتأريخ السطحي. فالمشهد الطبيعي الأفريقي كما تصفه الرحلة ليس محايدًا أبدًا. يبدأ بالغابات والبحيرات والفيلة، ثم ما يفتأ يزداد غرابة: شعوب تفرّ عند رؤية الرحالة، طروغلوذيت Troglodytes (سكان الكهوف)، جبال لا يمكن عبورها، لغات غير مفهومة. ويتحوّل الترحال شيئًا فشيئًا إلى تجربة وجودية على حدود البشرية.
يحكم السرد تسلسل درامي: من لقاء بشعوب قابلة للصداقة (مثل الليكسيت) إلى لقاء بكائنات متوحشة، ثم بكائنات أنثوية نصف حيوانية. وهي سلسلة تسفر عن تساؤل ضمني: أين تنتهي الإنسانية؟ ومتى يصير "الآخر" غير قابل للاندماج في نموذج المدينة الإغريقية؟
تبلغ الغرابة ذروتها في مشهد لقاء "الغوريلات" – وهي ليست قردة كما نفهم اليوم، بل نساء ذوات شعر كثيف وعدوانيات. يطاردهنّ القرطاجيون ويقتلون ثلاثًا منهنّ، ويقومون بسلخ جلودهنّ لأخذها معهم إلى قرطاج. في المخيال اليوناني، تمثّل المرأة ذات الشعر الكثيف رمزًا مقلوبًا للأنوثة، إذ ترتبط بالشهوة والعنف وانعدام النظام.
يشبّه جاكوب هذه الشخصيات بـ"الأمازونيات" من جهة، و"الباخيات" من جهة أخرى – نساء في حالة نشوة دينية عنيفة. ويشكّل هذا اللقاء تمثيلًا لمخاوف ذكورية يونانية من النساء خارج السيطرة الاجتماعية، ويطرح أسئلة عميقة عن الجندر والآخر والمجهول.
تقفز معنا مفارقة عجيبة، فالرحلة لا تنتهي بسبب العنف، بل لأن المؤونة – وعلى رأسها الخبز – ينفذ. وهذه ليست مجرد إشارة مادية. فالخبز، وفي إحالة إلى الغربال ΣΙΤΑ باللغة اليونانية، هو رمز الحضارة عند الإغريق، غذاء البشر المتحضر. وانقطاعه هو انقطاع الصلة بالإنسانية ذاتها. لقد بلغ الرحالة تخومًا لم يعد فيها الإنسان إنسانًا، بل غدا هشًّا أمام قوى الطبيعة والوحشية والألوهية.
صنعت النصوص القديمة من أفريقيا تخوماً للإنسانية، والمطلوب اليوم هو تحويل هذه التخوم إلى مراكز للفعل والإبداع
ما يبرزه جاكوب بذكاء هو أن رحلة حنّون ليست وصفًا حقيقيًا لساحل أفريقيا، بل تلخيصا مكثفا لصور الآخر الأفريقي في المخيال اليوناني. يظهر فيها الطروغلوذيت، والشعوب عديمة اللغة، والجبال الموحشة، والجزر المحاطة بالنيران. وتتكثّف في الرحلة أسئلة الهويّة الإنسانية والانحراف عنها، وهو سؤال مركزي في الأنثروبولوجيا اليونانية.
ليست أفريقيا وحدها من تُوضع في خانة الغرابة. بل هي، كما يرى جاكوب، إحدى مناطق "الهوامش" – مثل الهند أو بلاد الاسكيث أو ثول – حيث تذوب حدود الواقع في الخيال، وتصبح الجغرافيا حكايةً، لا خريطةً.
يخلص جاكوب إلى أن رحلة حنّون ليست "رحلة اكتشاف" بل "رحلة إسقاط"، يُستخدم فيها الآخر البعيد لتعريف الذات القريبة. من خلال هذه المغامرة السردية، يقدّم النصّ نموذجًا لما يُعرف في الأنثروبولوجيا الثقافية بـ"بناء الآخر"، ويكشف كيف يصنع الخيالُ الجغرافي معرفةً تبرّر الفوقية والحدود الحضارية. إنها رحلة إلى حدود العالم: ليس الجغرافي فحسب، بل الإنساني أيضًا.
إن استعادة صورة أفريقيا كما شُكّلت في النصوص الكلاسيكية، مثل رحلة حنّون، لا تهدف فقط إلى فهم كيف نظر الآخر إلى القارة، بل تتيح لنا أن نعيد مساءلة أثر هذه الصور في تشكيل سرديات لاحقة عن أفريقيا، سواء في الفكر الأوروبي الوسيط أو في خطابات الاستعمار الحديث. لقد ظلت القارة لعقود طويلة رهينة تمثلات نسجت حولها طابعًا من الغموض والبدائية، طمس في كثير من الأحيان تعقيداتها الحضارية، وتنوّعها الثقافي، وعمقها التاريخي. وهكذا، فإن العودة إلى تلك المخيّلات القديمة، وتفكيكها بنزاهة معرفية، هو جزء من مشروع ضروري لاستعادة أفريقيا لنفسها في الخطاب العالمي.
وإذا كانت النصوص القديمة قد جعلت من أفريقيا تخومًا للإنسانية ومسرحًا للغرابة والوحشية، فإن تحدي الحاضر والمستقبل يتمثل في تحويل هذه "التخوم" إلى مراكز جديدة للفعل والإبداع والتفكير. فأفريقيا اليوم ليست امتدادًا لأساطير الغوريلات أو لأرض الحريق التي نحتها خيال الإغريق، بل هي قارة شابة، نابضة، تواجه تعقيدات العالم الحديث بإمكانات بشرية وموارد طبيعية وطاقات فكرية متجددة. والتاريخ، بما في ذلك مروياته الملتبسة، ليس عبئًا على هذه القارة، بل يمكن أن يكون موردًا للوعي، إذا ما قُرئ بأدوات نقدية، تُنقّي الماضي من أساطيره، وتُطلق من رحمها أسئلة التحرر والنهضة.
إن رحلة حنّون ليست 'رحلة اكتشاف' بل 'رحلة إسقاط'، يُستخدم فيها الآخر البعيد لتعريف الذات القريبة
تدعونا رحلة حنّون القرطاجي كما في صياغتها اليونانية إلى التذكير برحلة الحسن الوزّان (ليون الأفريقي) في كتابه وصف أفريقيا؛ صحيح أن كل مقارنة بين الرحلتين محفوفة بالمخاطر السردية والتاريخية؛ بيد أن مجرد المقارنة تكشف لنا عن مفارقة جوهرية في طبيعة النظرة إلى القارة الأفريقية: ففي حين يتّسم النص اليوناني برؤية استشراقية مبكرة، تجعل من أفريقيا مرآة للغريب والمخيف، وتختزلها في حيواناتها، وسكانها المتوحشين، ومناظرها الأسطورية، تأتي رحلة الوزّان — وهو ابن القارة وواحد من أبنائها العارفين بها من الداخل — بوصف عقلاني ودقيق، أقرب إلى الحسّ الجغرافي والاجتماعي، خالٍ من التوهيمات الأسطورية. الوزّان لا يسعى إلى إدهاش قارئه الأوروبي، بل إلى تعريفه بعوالم بشرية حية، بأنظمتها السياسية، وثقافاتها، وتواريخها، في محاولة لإعادة الاعتبار لقارة طالما صُوِّرت من الخارج باعتبارها هامشًا للإنسانية.
ويزداد هذا المنظور وضوحًا حين نقارن بما ورد في رحلة ابن بطوطة الموسومة ب" تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"؛ ذلك الرحالة المسلم الذي جاب أقاليم أفريقيا من تمبكتو إلى مالي والسودان الغربي، دون أن يُسقط عليها تصوّرات تنميطية أو أحكامًا استعلائية. على عكس النظرة المركزية في النصوص اليونانية أو حتى الأوروبية اللاحقة، تميز ابن بطوطة برؤية تتفاعل مع الغريب دون تسطيحه، وتلاحظ الفروق دون شيطنته، بل سجّل إعجابه أحيانًا بنُظم العدالة أو الضيافة أو العفة في بعض المجتمعات التي زارها. هنا يغيب الآخر الوحشي، وتحضر الإنسانية في تنوعها، مما يدفعنا إلى التساؤل: كيف تؤثر الخلفية الحضارية في صياغة صورة الآخر؟ وهل يمكن أن تُنتج الرحلة، لا مجرد معرفة بالغير، بل معرفة بالذات أيضًا من خلال طريقة تمثّلها للغير؟