تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

أفارقة بلا وطن: انعدام الجنسية بين إرث الاستعمار وصراعات الهوية

29 سبتمبر, 2025
الصورة
أفارقة بلا وطن: انعدام الجنسية بين إرث الاستعمار وصراعات الهوية
Share

تعرف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين انعدام الجنسية بأنه الوضع القانوني الذي يُحرم فيه الفرد من اعتراف أي دولة به كمواطن وفق قوانينها. ويُقدَّر عدد عديمي الجنسية حول العالم بنحو 4.4 ملايين شخص، يعيش معظمهم من دون أي حقوق مواطنة. غير أن المسألة لا تقتصر على غياب الهوية القانونية فحسب، بل تنعكس في حرمان مزمن من التعليم والرعاية الصحية والعمل والحق في الزواج أو حتى الاعتراف بالوفاة، لتتحول بذلك إلى أزمة إنسانية بنيوية تُورَّث عبر الأجيال، وتُقيد إمكانات الانخراط الاجتماعي والسياسي للمجتمعات المتأثرة.

انعدام الجنسية: من إرث الاستعمار إلى أداة للإقصاء البنيوي

تتبدّى أزمة انعدام الجنسية في أفريقيا كظاهرة عابرة للحدود، إذ تنتشر بدرجات متفاوتة في تسع دول أساسية، من بينها كينيا وأوغندا وكوت ديفوار وزيمبابوي وجنوب أفريقيا. وبرغم غياب بيانات دقيقة، تشير التقديرات إلى أن أعداد عديمي الجنسية في القارة تتجاوز المليون شخص بكثير. هذا الامتداد الجغرافي لا يوحي بمشكلة عابرة بقدر ما يعكس تحديًا هيكليًا متجذّرًا في تاريخ القارة الأفريقية. فالاستعمار ترك وراءه فراغات قانونية وهويات متنازَع عليها، فيما فشلت المؤسسات الوطنية اللاحقة في صياغة نظم متماسكة للمواطنة.

يشكّل غرب أفريقيا بؤرة لانعدام الجنسية في القارة، حيث يُقدّر عدد عديمي الجنسية في كوت ديفوار وحدها بنحو 931 ألف شخص حتى مايو/أيار 2025. وتكشف هذه الإحصائية عن إرث تاريخي معقّد؛ فقد شهدت البلاد خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية تدفّق موجات كبيرة من المهاجرين من مالي وغينيا ودول الجوار، من دون أن تُمنح لهم الجنسية، ما ترك أثرًا طويل الأمد على تكوين الهوية.

الاستعمار ترك وراءه فراغات قانونية وهويات متنازَع عليها، فيما فشلت المؤسسات الوطنية اللاحقة في صياغة نظم متماسكة للمواطنة

مع دخول تسعينيات القرن الماضي، أفضت سياسات "الإيفواريتية" إلى تضخيم هذه الأزمة، عبر حصر الهوية الوطنية في الأصول الإيفوارية، وإقصاء جماعات واسعة من حقوق المواطنة. وأسهمت الأسئلة حول من هو إيفواري أو غير إيفواري في تأجيج حربين أهليتين في عامي 2002 و2010، ما حوّل انعدام الجنسية من حالة فردية إلى ظاهرة بنيوية مترسخة على الصعيدين المجتمعي والسياسي.

تُعتبر زيمبابوي أزمة انعدام الجنسية الرئيسية في جنوب أفريقيا، إذ يُقدَّر عدد المتأثرين بها أكثر من 300 ألف شخص محرومين من أبسط حقوق المواطنة. وينحدر معظم هؤلاء من أحفاد العمال المهاجرين الذين جرى استقدامهم خلال الحقبة الاستعمارية البريطانية، في إطار سياسة اعتمدت على استغلال اليد العاملة الرخيصة لتعزيز الاقتصاد الاستعماري. وتتضاعف المأساة عند النظر إلى الناجين من مجازر غوكوراهوندي في ثمانينيات القرن الماضي، الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على إثبات نسبهم بسبب عجزهم عن تقديم شهادات وفاة أقاربهم. وهكذا، لم يكن العنف السياسي مجرد جرح في الذاكرة الوطنية، بل أصبح أيضًا أداة لإعادة إنتاج الحرمان.

كما أسهمت الحكومة الزيمبابوية بدورها في تعميق الإقصاء، خصوصًا مع إقرار تشريعات تمييزية مثل قانون عام 1984 الذي جُرّد بموجبه آلاف الأشخاص من أصول أجنبية من حقهم في الجنسية بشكل تعسفي. ورغم أنّ الدستور ينص على ضمانات أوسع، لم يُصاغ حتى اليوم قانون للجنسية يتوافق مع تلك النصوص، فيما تواصل وزارة الداخلية تطبيق أحكام قديمة تسمح لها بحرمان أبناء المهاجرين من الجنسية بقرارات إدارية.

لم يعد قانون الجنسية في زيمبابوي مجرد إطار قانوني لتنظيم الانتماء الوطني، بل تحوّل إلى أداة سلطوية في يد السلطة. فبدل أن يُعالج إرث الاستعمار الذي خلّف أجيالًا من عديمي الجنسية، أضحى القانون نفسه جزءًا من المشكلة، إذ يمنح المسؤولين صلاحيات تقديرية واسعة تُمارَس في الغالب بطريقة تعسفية تُقوّض حقوق الأفراد. وهذا يعكس أزمة أعمق من مجرد ثغرات قانونية؛ إنها أزمة دولة تُعيد إنتاج الإقصاء والحرمان بدلًا من تجاوزهما.

أسهمت الأسئلة حول من هو إيفواري أو غير إيفواري في تأجيج حربين أهليتين في عامي 2002 و2010، ما حوّل انعدام الجنسية من حالة فردية إلى ظاهرة بنيوية مترسخة على الصعيدين المجتمعي والسياسي

إذا كانت زيمبابوي تمثل الوجه الأكثر حدة لانعدام الجنسية في جنوب القارة، حيث تداخل الإرث الاستعماري مع العنف السياسي والقوانين التمييزية، فإن جنوب أفريقيا تكشف جانبًا آخر للأزمة؛ إذ لا يتجاوز عدد عديمي الجنسية فيها نحو 10 آلاف شخص، لكن يقابلهم ما يقارب 15 مليون فرد غير مسجّلين رسميًا.هذه الأرقام لا تعكس فقط ثغرات في الإدارة البيروقراطية، بل تكشف أيضًا هشاشة المنظومة القانونية في التعامل مع قضايا اللجوء والهجرة، ما يجعل مسار الحصول على هوية قانونية معترف بها عملية معقدة.

تفاقمت الأزمة في جنوب أفريقيا مع مقترح وزارة الداخلية لعام 2018، الذي دعا إلى استبدال شهادات ميلاد أطفال الآباء الأجانب بوثائق بديلة تُعرف بـ"تأكيدات الميلاد". فمثل هذا الإجراء، بدلًا من أن يوفر الحماية القانونية، يُضاعف انعدام الجنسية، خصوصًا بالنسبة للأطفال الأيتام أو المهجورين، وكذلك المولودين لآباء مهاجرين غير موثّقين. ويطرح هذا التوجّه إشكالًا دستوريًا وأخلاقيًا في آن واحد، إذ ينقل عبء غياب الوضعية القانونية للوالدين إلى الأبناء، ويُعيد إنتاج التمييز ضد الفئات الأكثر هشاشة، بما يقوّض أسس المساواة التي يُفترض أن يقوم عليها النظام الدستوري.

تكشف أزمة انعدام الجنسية في أفريقيا عن مأزق يمّس جوهر الحقوق الإنسانية. فغياب التسجيل الرسمي للمواليد، وإن لم يكن مرادفًا لاكتساب الجنسية، يظل خط الدفاع الأول لضمان حق الأطفال في المطالبة بانتماء قانوني في المستقبل. لكن الأرقام الصادمة التي أوردها تقرير مشترك للجنة الاقتصادية لأفريقيا واليونيسيف عام 2022، والتي بيّنت أن من بين 162 مليون طفل غير مسجل حول العالم هناك 91 مليونًا في أفريقيا. تعكس الأرقام فجوة في منظومة الحماية. إن ترك ملايين الأطفال بلا تسجيل رسمي يعني إنتاج جيل جديد من المحرومين من أبسط الخدمات، ويضاعف احتمالات بقاء القارة عالقة في دوامة الإقصاء.

أفريقيا وعديمي الجنسية: إنجازات محدودة أمام أزمة ممتدة

على الرغم من هذا المشهد المأزوم، فإنّ السنوات الأخيرة شهدت بروز بعض المؤشرات الإيجابية. ففي نهاية عام 2024، أعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أنّ أكثر من 600 ألف شخص عديم الجنسية حول العالم تمكنوا من استعادة جنسياتهم منذ إطلاق حملة "أنا أنتمي" عام 2014. كما انضمت 47 دولة إلى اتفاقيات الأمم المتحدة المعنية بانعدام الجنسية، بينما عززت 20 دولة أطرها القانونية والسياسية لحماية هذه الفئة، من بينها كوت ديفوار، في حين أقرّت ليبيريا ومدغشقر وسيراليون تشريعات تضمن المساواة بين الجنسين في منح الجنسية. ولا شك أنّ هذه الخطوات تمثل إنجازًا لا يُستهان به، إذ تؤكد أنّ الضغوط الدولية والمبادرات المتعددة الأطراف قادرة على إحداث اختراق في واحدة من أكثر أزمات حقوق الإنسان استعصاءً.

تبرز كينيا في هذا السياق باعتبارها تجربة أكثر إيجابية، إذ شهدت السنوات الأخيرة تطورًا لافتًا تمثل في انخفاض عدد عديمي الجنسية إلى نحو 9,800 فرد بعد أن مُنح ما يقارب 7,000 شخص من مجتمع بيمبا الجنسية رسميًا عام 2023. كما شمل الاعتراف القانوني مجتمعات أخرى طالما عانت من التهميش، من بينها 1,500 فرد من جماعة ماكوندي و1,650 من جماعة شونا، الذين أُدرجوا في القوائم باعتبارهم مواطنين كينيين بعد سنوات من النضال.

يعكس هذا التحول استجابة مباشرة لتعهدات أعلنتها الحكومة الكينية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 عند انضمامها إلى اتفاقيتي الأمم المتحدة لعام 1954 و1961 بشأن خفض حالات انعدام الجنسية، واضعة هدفًا طموحًا للقضاء على الظاهرة بحلول عام 2027. وعلى الصعيد الإقليمي، اتخذت تنزانيا خطوة مماثلة حين منحت الجنسية لنحو 3,300 فرد في زنجبار عام 2023، وهو ما يشير إلى تحوّل تدريجي في بعض دول شرق أفريقيا نحو معالجة هذه الأزمة المتجذّرة.

إن ترك ملايين الأطفال بلا تسجيل رسمي يعني إنتاج جيل جديد من المحرومين من أبسط الخدمات، ويضاعف احتمالات بقاء القارة عالقة في دوامة الإقصاء

غير أن هذه الخطوات تبقى محدودة إذا ما قورنت بحجم التحدي؛ فهي تكشف من جهة عن إمكانية كسر دائرة الحرمان عبر الإصلاحات، لكنها تفضح من جهة أخرى التفاوت الصارخ بين دول تسعى إلى معالجة جذور الأزمة، وأخرى لا تزال تتشبث بانعدام الجنسية كأداة للإقصاء وإعادة إنتاج الهشاشة.

كما يبدو أن مسألة السيادة الوطنية تمثل جوهر إحجام الحكومات عن الحد من حالات انعدام الجنسية؛ إذ قاومت العديد من الدول القوانين والالتزامات الدولية، وهو ما برز في تقرير مفوضية الأمم المتحدة الصادر في يونيو/حزيران 2023 حول مؤشر تعداد عديمي الجنسية، حيث لم تتقدم سوى خمس دول أفريقية بخطوات في هذا الملف، متذرعةً بالحفاظ على حقوقها السيادية.

المواطنة المؤجلة: بروتوكول أفريقيا لإنهاء الإقصاء القانوني

شرع الاتحاد الأفريقي، منذ فبراير/شباط 2024، في اعتماد بروتوكول إقليمي يهدف إلى القضاء على انعدام الجنسية، باعتباره إحدى القضايا المعرقلة لمسار بناء الدولة، وتعزيز الاندماج المجتمعي في القارة. غير أنّ الوثيقة ما تزال رهينة التعثر الإجرائي، إذ لم تحصد حتى الآن الحد الأدنى من توقيعات وتصديقات 15 دولة، وهو الشرط اللازم لدخولها حيّز النفاذ.

يعكس هذا التباطؤ فجوة بين الخطاب المعلن، الذي يقر بأن انعدام الجنسية يتعارض مع الحقوق المنصوص عليها في الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان، وبين الواقع السياسي الذي لا تزال فيه اعتبارات السيادة الوطنية أولوية تتفوق على الالتزامات القانونية الإقليمية. ويكتسب النقاش بعدًا أعمق عند وضعه في سياقه التاريخي؛ فالقارة تحمل إرثًا استعماريًا مثقلًا بحدود مصطنعة وصيغ هوية متنازَع عليها. هذه الهشاشة لا تقف عند حدود الأفراد، بل تنطوي على تهديد مباشر لاستقرار الدول.

إنّ مأساة انعدام الجنسية في أفريقيا ليست إرثًا جامدًا من الماضي، بل انعكاس لخيارات سياسية راهنة تُعيد إنتاج الإقصاء بدل معالجته. وما لم تكسر الحكومات الأفريقية عقدة السيادة التي تتذرع بها لرفض الإصلاح، فستبقى ملايين الأرواح معلقة خارج أي انتماء قانوني. التجارب الإيجابية في كينيا وتنزانيا وكوت ديفوار تؤكد أن الإرادة السياسية قادرة على تحويل الأزمة إلى فرصة لبناء مجتمعات أكثر عدالة وتماسكًا. لكن الطريق لا يزال طويلًا، والوقت ليس في صالح القارة. إنّ الاعتراف بحق كل فرد في المواطنة ليس ترفًا حقوقيًا، بل هو الشرط الأول لبقاء الدولة نفسها وصون استقرارها.