تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

"أبَّان".. نظام عريق لتنظيم التجارة والسياحة في الصومال

13 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

اكتشفت القوى العالمية الكبرى؛ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا أثناء احتلالها للصومال، نظاماً فريداً للتبادل التجاري يُعرف بـ"أبَّان"، والذي كان يُستخدم في موانئ الصومال لتوفير خدمات النقل والإرشاد وحماية التجار والسياح. كان هذا النظام رمزاً لسيادة الصوماليين على أرضهم، ودليلاً على انفتاحهم التجاري مع الأمم المجاورة، مثل: العرب العمانيين واليمنيين والفرس والهنود قبل قدوم الاستعمار.

نستكشف في هذا التقرير نظام "أبَّان" في موانئ الصومال الشمالية، خاصة زيلع وبربرة، خلال القرن التاسع عشر، بالاعتماد على مذكرات الرحالة والتجار الأوروبيين الذين زاروا المنطقة. وذلك بهدف توثيق هذا التراث باعتباره جزءا من إحياء الذاكرة الصومالية، وبعث روح الاعتزاز بالهوية التاريخية.

"أبّان" بين الذاكرة الشفهية والوثائق

يفيد "أبَّان" في الذاكرة المحفوظة المتمثلة بالاستخدام اللغوي مرشد القوافل التجارية وضامنها، بينما تفيد الوثائق البريطانية والفرنسية أن الـ" أبَّان" يطلق على مرشد القوافل التجارية، وعلى الأجرة التي تؤخذ من أرباب البضائع مقابل التوصيل، وعلى الرسوم التي تُفرض مقابل المرور على الأرض.

تكمن أهمية هذا النظام، في كان رمزاً لسيادة الصوماليين على أرضهم التي لم تكن مستباحة للقوى الأجنبية، إذ كانت القبائل الصومالية، في ظل غياب سلطة وطنية قوية، تفرض سيادتها على أرضها، وتمنع الأعداء من الاستحواذ على خيراتها، وتتيح للتواصل التجاري منفذاً قانونياً عبر نظام "أبَّان" الذي كان ملكاً للقبائل والعشائر المحاذية للموانئ، والتي يقع الميناء في نطاق أرضها ومراعيها الطبيعية.

ففي "بربرة" و"بلهار" كان نظام "أبَّان" يعتمد على قبائل هبر أول، بينما يعتمد على قبائل عيسى في مينائي زيلع وجيبوتي، قبل مدَّ السكة الحديدية بين جيبوتي وأديس أبابا، حيث كانت هذه القبائل تحتكر خدمات "أبَّان"، وتستفيد من الامتيازات المالية والسلطوية، إذ وصف الرحالة الفرنسي "جابريل فيرون" في تقريره عن الصومال عام 1884، رجال "أبّان" في زيلع بالأثرياء، وشبههم بالملكيين الأحباش، وذكر أن نساءهم تلبسن الحرير الفاخر والحلي الغالي.

كان "أبّان" رمزاً لسيادة الصوماليين على أرضهم التي لم تكن مستباحة للقوى الأجنبية، إذ كانت القبائل الصومالية، في ظل غياب سلطة وطنية قوية، تفرض سيادتها على أرضها، وتمنع الأعداء من الاستحواذ على خيراتها

لم تكن الامتيازات التي تحصل عليها هذه القبائل تمر بسهولة، دون أن تُثار عليها مشكلات، وأحيانًا حروب مع القبائل الأخرى. فقد أشارت المصادر البريطانية إلى العديد من النزاعات التي نشأت بسبب رغبة بعض القبائل في مشاركة قبائل أخرى في أرباح تجارة "أبَّان".

ذكر الرحالة البريطاني "رتشارد بيرتون"، على سبيل المثال، أن قبائل "عيسى البيض" التي كانت تسيطر على تجارة ميناء زيلع عبر الطريق إلى مملكة هرر، حاولت مشاركة قبائل "عيسى السود" في أرباح الطريق المؤدي إلى مملكة شوا في الحبشة. وأدى هذا النزاع إلى اعتراض قافلة عبيد قادمة من شوا، مما تسبب في معركة دامية قُتل فيها العديد من العبيد، بينهم "مسعود"، خادم أمير زيلع "شرماكي". ونتيجة لذلك، تم إغلاق الطريق وتعطيل التجارة.

وفي حادثة أخرى، كادت أن تقع فتنة في بربرة، عندما تعاقد المستكشف البريطاني "فرانك جيمس " صاحب كتاب "The Unknown Horn of Africa" مع تاجر محلي من قبيلة جرحجس، يدعى "دوالي إدريس"، ليدبر له رحلة استكشافية إلى المناطق الداخلية، وأعطاه رسوم "أبَّان" مما أثار حفيظة عشيرة آل أحمد من قبائل هبر أول، وأدى إلى تدخل السلطات البريطانية لإيقاف الرحلة خوفاً من ثورة محتملة.

تبرهن هذه الحادثة احترام المستعمرين الأوروبيين لنظام "أبَّان"، كما تعكس قدرة القبائل الصومالية على إثبات نفسها أمام القوى الأجنبية؛ إذ كان تقليد "أبَّان" بمثابة اعتراف بسلطة القبيلة على أراضيها، مما منحها سيادة وطنية معترفًا بها.

إلى جانب الاعتراف بسلطة القبيلة، كانت هناك دوافع عملية دفعت السلطات إلى تبني هذا النظام، أبرزها انتشار الهجمات على القوافل التجارية التي يمتلكها الأجانب البيض في المناطق الداخلية، وعجز السلطات الاستعمارية في السواحل عن التعامل مع هذه التهديدات بفاعلية؛ مما جعل اللجوء إلى القبائل لحماية القوافل هو الخيار الوحيد المتاح في ظل تلك الظروف.

القبيلة وتطور نظام "أبَّان"

استنادًا إلى الوثائق المصرية خلال فترة انتدابها على السواحل الصومالية نيابة عن العثمانيين ما بين (1875-1885)، ومذكرات المستكشفين الأوروبيين الأوائل، مثل "روشيه" في رحلته بين تاجورة وشوا عام 1840، وريتشارد بيرتون في رحلته الشهيرة عام 1854 بين زيلع وهرر وبربرة، يتضح أن نظام "أبَّان" قديم، وكان معمولًا به منذ زمن بعيد كآلية لتنظيم التجارة والسياحة في الصومال.

في ظل غياب مصادر موثوقة، لا يمكن تحديد متى بدأ تطبيق هذا النظام في الموانئ الصومالية بدقة. ومع ذلك، فإن طبيعة "أبَّان" الذي يعكس تنامي نفوذ القبائل وتوليها مهام الدولة، تشير إلى أن ظهوره قد يكون مرتبطًا بالأحداث التي أعقبت سقوط دولة "عدل" الإسلامية أواخر القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث أدى انهيار هذه الدولة إلى فراغ سياسي كبير في القرن الإفريقي. مما دفع القوميات والقبائل إلى تنظيم نفسها ككيانات بديلة تمارس سلطات الدولة، ومن المرجح أن نظام "أبّان" نشأ في تلك الفترة، ثم تطور لاحقًا في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة.

مما دفع القوميات والقبائل إلى تنظيم نفسها ككيانات بديلة تمارس سلطات الدولة، ومن المرجح أن نظام "أبّان" نشأ في تلك الفترة، ثم تطور لاحقًا في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة

تمثلت هذه التحولات في تشكُّل ثلاث قوى رئيسية على الخارطة السياسية في إثيوبيا والصومال الشمالي والغربي، بعد انهيار دولة عدل، وهي: سلطنة هرر الإسلامية في المرتفعات الإثيوبية الشرقية، ومملكة "شوا وجالا" فوق الهضبة الحبشية، والعثمانيين في زيلع وبربرة ومصوع. ونظراً لأن هذه القوى لم تكن قادرة على بسط نفوذها بالكامل أو تأمين الحدود وتنظيم التجارة بين السواحل والمناطق الداخلية، فقد برزت القبائل كقوة فاعلة ومؤثرة، حيث لعبت دورًا محوريًا في تنشيط التبادل التجاري.

في هذه الأجواء، اكتسبت الموانئ الصومالية، وخاصة مينائي زيلع وبربرة، أهمية إضافية، حيث أصبحا منفذين رئيسيين لسلطنة هرر الغنية، التي كانت تتحكم بتجارة الصومال الغربي وشرق إثيوبيا. وقد منح هذا الأمر قبائل عيسى وهبر أول، الساكنة في تخوم هذين الميناءين، فرصة كبيرة لتصبح لاعباً رئيسياً في المعادلة السياسية والاقتصادية لهذه المنطقة الاستراتيجية.

مع تأسيس مستعمرة عدن البريطانية، زادت الأهمية الاقتصادية لميناء بربرة، حيث أصبح قاعدة تموين رئيسية للمستعمرة. هذا التطور دفع الفرنسيين، في إطار تنافسهم مع البريطانيين، إلى تأسيس ميناء جيبوتي على الساحل الصومالي الفرنسي. وبذلك، تضاعفت أهمية الطريق التجاري بين هرر وزيلع، مما أدى إلى فتح فرع جديد لهذا الطريق.

هذه التحولات السياسية والاقتصادية ساعدت على ترسيخ نظام "أبّان"، وساهمت في تطوره وزيادة فاعليته، حيث أصبح أداة مهمة لتنظيم التجارة وإدارة العلاقات بين القبائل والقوى الخارجية في تلك الفترة المضطربة من تاريخ المنطقة.

"أبَّان" في مينائي بربرة وزيلع

كان هناك اختلاف في تطبيق نظام "أبَّان" بين مينائي بربرة وزيلع، ويعود ذلك إلى تباين طبيعة السلطة ونفوذها في كل منهما. ففي بربرة، لم يكن للعثمانيين وجود فعلي، مما سمح لعشيرة آل أحمد بالسيطرة الكاملة على الميناء. وبعد سقوط أمير زيلع شرماركي، الذي كان يحكم بربرة بواسطة ابنه محمد، تعززت سلطة هذه العشيرة، حيث فرضت سلطتها على الميناء، وأصبحت تتحكم في الرسوم المفروضة على البضائع الواردة والصادرة، وتفرض 180 روبية لكل حمولة جمل.

كانت السلطة في زيلع أكثر تنظيماً، حيث كان أمير زيلع يتمتع بدعم الوالي العثماني في مخا، الذي كان يزوده بقوات شرطة وعمال؛ مما مكَّنه من ممارسة نفوذ قوي داخل المدينة، وإن كان هذا النفوذ لم يكن يتجاوز أسوار المدينة، وفقاً لشهادات المستكشفين الأوروبيين. لهذا كانت الرسوم المفروضة على البضائع تذهب إلى السلطات الرسمية، بينما كانت خدمات النقل والحماية على الطرق تُدار من قبل قبائل عيسى البيض، التي كانت تحتكر هذه الخدمات، فتأخذ 4.5 "تالر ماريا تيريزا" ثمناً لكراء جمل، و"تالر" واحد للحمال و5 "تالر" لأجرة الدليل، وتأخذ مثل هذا عن القوافل القادمة من هرر في محطة "جلديسا".

كما يحظى سلطان قبائل عيسى بدعم ومكافآت السلطات في زيلع، مقابل إشرافه على القوافل التجارية التي تعبر باسمه طريقها من زيلع إلى "جلديسا" الواقعة آخر نقطة في بلاد عيسى، وآخر حدود إمارة زيلع العثمانية مع سلطنة هرر. 

كانت البضائع تشحن على ظهور جمال عيسى في زيلع حتى تصل إلى "جليديسا"، ثم تنقل على ظهور البغال بواسطة رجال قبيلة "نولا" من قبائل أورومو التي كانت تتمتع بامتيازات الـ" أبَّان" في هرر، وتتولى مسؤولية تنظيم التجارة في الجانب الآخر من الطريق بتوكيل من سلطنة هرر. وقد وثق المكتشفون والتجار الأوروبيون آلية توصيل البضائع بين عيسى ونولا، ومحطات الطريق بين هرر وزيلع، بتوثيقات استثنائية ونادرة، قلما حظيت بها مواقع أخرى في هذه المنطقة.

إن نظام "أبَّان" في الصومال ليس مجرد آلية تقليدية لتنظيم التجارة والسياحة؛ وإنما هو ذاكرة حية تُوثّق مرحلة استثنائية من تاريخ منطقة القرن الأفريقي، مرحلة تميزت بتراجع دور السلطة المركزية وصعود القبائل كفاعل رئيسي على الساحة السياسية والاقتصادية

تشير الوثائق البريطانية إلى استياء الإدارة من رسوم "أبَّان" في بربرة، ورغبتها في إلغائها، بالإضافة إلى تفكيرها في منح سلطة محلية من بقايا نظام شرماركي صلاحيات لإدارة الأمور هناك. كما تعكس الوثائق انزعاج التجار والسياح الأوروبيين الذين كانوا يعتبرون هذه الرسوم بمثابة رشوة تُدفع للقبائل. في المقابل، يظهر ارتياح السلطات والتجار الأوروبيين لعدم فرض أي رسوم على العبور في زيلع، مما دفعهم إلى الإشادة بقبيلة العيسى في مذكراتهم ورسائلهم، ووصفها بأنها قبيلة عثمانية صديقة للأوروبيين. كما أثنوا على الأوجاس روبلي فارح سلطان عيسى لدوره الفعّال في دعم التجارة، وحسن إدارته لتلك المنطقة.

إن نظام "أبَّان" في الصومال ليس مجرد آلية تقليدية لتنظيم التجارة والسياحة؛ وإنما هو ذاكرة حية تُوثّق مرحلة استثنائية من تاريخ منطقة القرن الأفريقي، مرحلة تميزت بتراجع دور السلطة المركزية وصعود القبائل كفاعل رئيسي على الساحة السياسية والاقتصادية، ويعكس في الوقت نفسه قدرة الإنسان الصومالي على التكيف مع التحديات والتعامل مع الأجانب بروح من الندية والاستقلالية.

ختاماً، تبقى آثار تلك المرحلة حاضرة بقوة في العقل الجمعي الصومالي، حيث لا يزال الولاء للقبيلة يتفوق على الانتماء للدولة في نظر الكثيرين. والواقع الحالي خير دليل على ذلك، إذ ما تزال الموانئ الصومالية تُعامل من قبل السياسيين الصوماليين على أنها "أبَّانات" تابعة للقبائل. فما أشبه الليلة بالبارحة.