الأحد 15 يونيو 2025
لطالما خضعت القارة الأفريقية، وبشكل خاص مناطق جنوب الصحراء، لهيمنة نماذج تحليلية وافدة من السياق الأوروبي الحديث -من مفهوم الدولة عند ماكس فيبر إلى نظريات العقد الاجتماعي-. غير أن هذه النماذج، وعلى الرغم من هيبتها الأكاديمية، غالبًا ما أثبتت قصورها حين تُسقط على الواقع الأفريقي، إما بسبب تجاهلها لطبيعة المجتمعات الشفهية والقبلية، أو لافتراضها مسارًا خطيًا للتحديث، لا يراعي تعددية القارة الثقافية والسياسية.
في مواجهة هذا الاختزال، تبرز الحاجة إلى تثوير مناهج تحليلية تنبع من تراثنا الفكري والثقافي، بما يسمح بإعادة بناء أدواتنا لفهم الحاضر على ضوء التاريخ. ومن بين أبرز الإسهامات النظرية التي تستحق إعادة التفكير، يبرز فكر عبد الرحمن ابن خلدون، المفكر الإسلامي الذي قدم إسهامه الأعظم "المقدمة" بوصفها محاولة مبكرة لتأسيس علم عمراني يُعنى بفهم الاجتماع البشري وتحولاته.
رغم أن ابن خلدون حاضر في مناهج العديد من دول الجنوب بوصفه منجزًا معرفيًا من الماضي، إلا أن مشروعه الفكري نادرًا ما يُخضع لتفكيك أو تطوير يفتح أفقًا نظريًا جديدًا. ومع ذلك فإن فكره، إذا ما قُرئ في ضوء الأسئلة المعاصرة، فلا يزال يحمل قدرة على الإسهام في صياغة نماذج تفسيرية تتجاوز القوالب الغربية المهيمنة.
لكن، واعتبارا لمنشأ هذا الفكر في شمال الصحراء، ضمن فضاء مغاربي-عربي، فإن ظل على هامش الاهتمام الأكاديمي في جنوب الصحراء، وهو ما يقرؤه المفكر الأفريقي محمود ممداني بوصفه نتيجة من نتائج الفصل الاستعماري التعسفي بين شمال وجنوب الصحراء.
يطرح ممداني في دراسته عن ابن خلدون دعوة معرفية جريئة لتجاوز التقسيم الاستعماري الذي جزّأ القارة الأفريقية إلى "شمال عربي/أمازيغي-إسلامي" و"جنوب أفريقي-أسود"، ويقترح بدلًا من ذلك أن ننظر إلى أفريقيا بوصفها دائرة حضارية متداخلة ومتعددة الطبقات والمناطق. بما يفتح المجال أمام إدماج الإسهامات الفكرية العربية -ومنها فكر ابن خلدون- في تحليل الواقع الأفريقي جنوب الصحراء، شريطة أن تتم هذه القراءة بصورة نقدية، واعية بسياقاتها، ومتحررة من إسقاطات النقل الحرفي أو التعميمات الجاهزة.
يرى ممداني أن إعادة قراءة ابن خلدون في جنوب الصحراء ليست مجرد ترف أكاديمي، بل فعل تحرّر معرفي، يسهم في تفكيك المركزية الغربية، ويُعيد وصل ما فصلته الحدود الاستعمارية بين شمال القارة وجنوبها
إن تفكيك النموذج الخلدوني، يقود للاعتراف بأن مفهوم العصبية يكمن في مركزه بوصفه المحرك الرئيسي لصعود الدول وانهيارها. ويقصد بها ابن خلدون الالتحام القائم على أي شيء يُتصور أنه أساس مشترك بين هؤلاء الأفراد، وقد يكون هذا الشيء المشترك النسب أو ما في معناه - بنص عبارة ابن خلدون-، بما يعني فتح النسق التحليلي ليدخل في ذلك كل ما يمكن أن ينشئ التصور الجماعي بالالتحام، هذا التوسيع في فهم العصبية يتيح للنموذج الخلدوني أن يسبر أغوار الثقافة السياسية الأفريقية، حيث تلعب الهويات الإثنية والعشائرية والمناطقية دورًا مركزيًا في إنتاج الفعل الجماعي، وصياغة العلاقات مع السلطة، والمشاركة في الصراعات السياسية.
هنا، يمكن أن نجد صدى قويا لمفهوم العصبية في السياق النيجيري المعاصر، حيث يشكّل الانقسام الإثني والديني بين الشمال المسلم (هوسا-فولاني) والجنوب المسيحي (إيغبو ويوروبا وغيرهم) أحد أهم المحددات في التنافس على السلطة والثروة. كما أن تجربة خلافة صُكُتو تمثل نموذجًا تطبيقيًا مبكرًا للنظرية الدورية للدولة الخلدونية، كما يظهر في تحليل الباحث النيجيري أحمد أوكيني، فقد نشأت هذه الدولة بفعل عصبية دينية إصلاحية بقيادة عثمان دان فوديو، قبل أن تدخل لاحقًا في دورة من التحلل والتفكك بفعل الترف ووراثة المناصب، وصولًا إلى ضعفها أمام الاحتلال البريطاني. تعكس هذه الدورة الخلدونية – من التأسيس عبر العصبية، إلى التراجع عبر فقدان الزخم الجماعي – نموذجًا يمكن إسقاطه على حالات أخرى في تاريخ الممالك الأفريقية.
أما في رواندا ما بعد الاستعمار، فتأخذ العصبية شكلًا مصطنعًا وموجَّهًا. فبعد الإبادة الجماعية عام 1994، لم تكن هناك عصبية إثنية قابلة لإعادة البناء، بل عمدت الدولة بقيادة الجبهة الوطنية إلى بناء عصبية وطنية جديدة عبر مشروع "نحن روانديون" (Ndi Umunyarwanda)، ومحاكم غاشاكا للمصالحة الشعبية، وبرامج إعادة الإعمار الاجتماعي.
هذا النوع من العصبية المفروضة من الأعلى، والمبنية على الأداء والكفاءة لا على القرابة، يُمثّل حالة جديدة يتقاطع فيها النموذج الخلدوني مع مفاهيم الدولة الحديثة. لكنه لا ينفصل عن جذور النموذج، وهو وجود شيء يحدث الالتحام للجماعة، وليس التفكير الغربي في المجتمعات كأفراد، وهو ما نجح في خلق هوية وطنية جديدة لم تتجاوز الاثنيات العرقية، ولكنها نجحت في خلق عصبية جديدة للحكم.
كما توفر الثنائية الخلدونية بين البداوة والحضارة أداة لفهم علاقات المركز والهامش في مجتمعات جنوب الصحراء. فالتوترات بين الجماعات الرعوية والمجتمعات الزراعية، أو بين المناطق الطرفية التي تعاني التهميش والدولة المركزية، هي نمط قائم في بلدان مثل مالي، حيث تعيد التمردات الطوارقية المتكررة طرح إشكالية العلاقة بين سلطة مركزية ضعيفة وهامش يمتلك عصبية بدوية صلبة مستندة إلى روابط القرابة وأسلوب حياة صحراوي قاسٍ.
لكن على الرغم من النجاح النسبي الذي حققه النموذج الخلدوني في تفسير عدد من الحالات الأفريقية، فإن القراءة النقدية للدراسات التي حاولت تطبيقه، تثبت أنه مازال يواجه قيودًا معرفية ومنهجية جوهرية، تتطلب قراءة نقدية تتجاوز الحماسة الإحيائية إلى مساءلة المفاهيم ومواقعها من الزمن والسياق.
أولى هذه القيود هو خطأ وقع فيه الباحثون أنفسهم في التركيز المفرط في التحليل على مفهوم العصبية، بوصفه العنصر الأكثر قابلية للنقل من فكر ابن خلدون إلى السياق الأفريقي المعاصر. إذ تستُدعى العصبية لتفسير ظواهر متعددة، مثل: تعبئة الهويات الإثنية في نيجيريا، أو صمود الطوارق في شمال مالي، أو مشروع بناء التماسك الوطني في رواندا بعد الإبادة.
ربما يكمن سر جاذبية العصبية في قربها الظاهر من أنماط الانتماء الجماعي والانفعالات السياسية المعاصرة. ومع ذلك، فإن هذا الاستدعاء الانتقائي والمجتزأ يتجاهل أن العصبية، في تصور ابن خلدون، ليست مجرد انتماء اجتماعي؛ بل هي بنية مفاهيمية شديدة التعقيد، تنشأ في سياق البداوة القاسية، وتبلغ ذروتها بالتمكن من السلطة (الملك)، ثم تدخل في طور التراجع مع تحول الجماعة إلى الحضارة.
واستثمار هذا النموذج قد يفسر لنا بشكل كبير أشكال المعارضة السياسية في أفريقيا بشكل أفضل بكثير من النظريات الغربية عن المعارضة السياسية في المجتمعات الغربية
ثانيًا، تُعاني النظرية الخلدونية من قصور بنيوي في التعامل مع اللحظة الاستعمارية وما بعدها. فهي نُسجت في زمن سابق على الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، ولم تتفاعل مع ما أحدثه من تحولات جذرية في بنى الدول والمجتمعات، من إعادة رسم للحدود إلى اختراع التصنيفات الإثنية، وإدماج الاقتصادات الأفريقية في منظومة رأسمالية عالمية على نحو تابع. هذه الحالة التاريخية -المتمثلة في الاستعمار وتحديث الدول الأفريقية- تُعدّ عنصرًا تأسيسيًا في فهم الهشاشة السياسية والتصدعات الهوياتية في أفريقيا الحديثة، وأي نموذج يتجاهلها أو يتجاوزها دون مساءلة، يفقد قدرته على تفسير العالم الذي وُلد بعد الاستعمار لا قبله.
ثالثًا، تُظهر الهياكل الاجتماعية والسياسية في أفريقيا جنوب الصحراء تباينًا عميقًا عن السياقات التي استند إليها ابن خلدون في تحليله. ففي مقابل النسب الأبوي والعشائرية البدوية التي شكّلت بُنية العصبية لديه، نجد في أفريقيا تنوعًا هائلًا: أنظمة نسب أمومية، ومجتمعات بلا دولة، وممالك مركزية، ونظم حكم قائمة على الأعمار أو المجالس، ودرجات متفاوتة من التراتب الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من أن ابن خلدون تحدث عن أن المهم في العصبية هو وجود ما يحفز على الالتحام، إلا أن التركيبة المختلفة للعصبية ستؤدي بلا شك إلا خصائص متباينة عن تلك التي تحدث عنها ابن خلدون للعصبية البدوية العربية. هذه التعددية تُحتّم توسيع مفهوم العصبية نفسه، أو إعادة بنائه نظريًا، كي لا يتحول إلى مصطلح قاصر أمام أشكال التماسك الأفريقي المختلفة.
أما على المستوى الديني، فإن النموذج الخلدوني يفكر بشكل أكبر في الدين التوحيدي الواحد مستحضرًا النموذج الإسلامي واليهودي والمسيحي، ويرى أن هذا الدين يمكن أن يساهم في تعزيز العصبية ويوجهها نحو الشرعية السياسية. بينما تشهد المجتمعات الأفريقية تعددية دينية فريدة داخل المجتمع نفسه من أديان كبرى لمعتقدات محلية تتباين بين العشائر، مما يحتم ضرورة إعادة قراءة موضع الدين في النظرية الخلدونية بشكل أكثر تعقيدا، بما يتناسب مع المجتمع الأفريقي.
هذه التحديات تفرض علينا ضرورة تثوير النموذج الخلدوني ذاته، لا للتخلي عنه، بل لاستخراج طاقته التفسيرية الكامنة، من خلال مساءلته ودمجه في أفق العلوم الاجتماعية الحديثة، واستنطاقه بما يتجاوز حدوده التاريخية والجغرافية، ليواكب واقعًا أكثر تعقيدًا وتداخلًا.
إن استدعاء النموذج الخلدوني في تحليل واقع أفريقيا جنوب الصحراء يُقدَّم خطوة نقدية جريئة نحو تفكيك المركزية الغربية، إلا أن هذا المسار لا يخلو من مفارقة معرفية حساسة: هل يُمكن أن يتحول هذا الفعل التحرري ذاته إلى شكل جديد من الهيمنة المعرفية؟
تنبهنا دراسات ما بعد الاستعمار دائمًا إلى مخاطر تطبيق النماذج التفسيرية الجاهزة القادمة من خارج السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمع المدروس، لما تحمله من ميل لإقصاء المعرفة المحلية، وإعادة إنتاج تراتبيات استعمارية في التفكير. ففي الماضي، استُخدمت النماذج الأوروبية لتفسير المجتمعات الأفريقية بطرق اختزلتها في "البدائية" و"الجمود"، واليوم، قد يقع استبدال تلك النماذج الأوروبية بمركزية مغاربية/عربية توظف ابن خلدون على نحو مشابه، فتغدو "العصبية" بديلاً مفترضًا عن التقاليد الشفهية والأنساق المفاهيمية الأصلية.
إن استخدام مفهوم العصبية خارج هذا السياق التركيبي يُعرّضه لفقدان دقته التحليلية، وقد يؤدي إلى اختزال المفهوم وتحويله إلى أداة تفسير سريعة فاقدة للأبعاد الزمنية والمكانية التي نشأ فيها
صحيح أن البعض يرى في هذه القراءة نوعًا من النقل المعرفي جنوب-جنوب، وفرصة لحوار تضامني بين مفكرين عرب وأفارقة في مواجهة مركزية الغرب، إلا أن هذا الحوار يفقد معناه إذا لم يُمارَس بنقد داخلي صارم. فابن خلدون نفسه حمل تحيزات واضحة، كما لاحظ محمود ممداني، منها وصفه للزنوج بازدراء، وإغفاله لتأريخ "الهمجية" أو المجتمعات غير المتحضّرة، فضلًا عن بعض الدراسات التي أثبتت محدودية معرفته بتراث غرب أفريقيا الشفهي، ما جعل توثيقه لممالك كمالي عرضة للتشكيك.
لذلك لا ينبغي النظر إلى استحضار ابن خلدون في تحليل الواقع الأفريقي بوصفه مشروعًا لتصدير نموذج جاهز أو إحلال مرجعية بأخرى، بل فرصة لإعادة التفكير في شروط إنتاج المعرفة ذاتها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في إثبات "صلاحية" النموذج الخلدوني أو نفيها، بل في كيفية توظيفه ضمن علاقة حوارية متكافئة مع التجربة الأفريقية، تُبقي على خصوصية السياق وتُفعل طاقاته المفاهيمية الكامنة. فالمعرفة لا تُفهم إلا بتعدد أصواتها، ولا تُحرر إلا حين تتحرر من المركزية أياً كان مصدرها.