السبت 8 نوفمبر 2025
يُعدّ الدكتور إيغوالِه جبري يوهانس شخصيةً مهمّة في المشهد الفكري الإثيوبي، وقد برز خلال واحدة من أكثر الفترات تحوّلًا في التاريخ الحديث للبلاد. وُلد في أديس أبابا عام 1924، وترعرع في إثيوبيا الواقعة «بين عالمين»؛ بلدٍ يحاول أن يعانق الحداثة من دون أن يفرّط في هويته العتيقة. كانت إثيوبيا في شبابه تحت حكم الإمبراطورة زوديتو، فيما كان رأس تفري مكونن (الذي صار لاحقًا الإمبراطور هيلا سيلاسي) وصيًا نشِطًا يقود جهود تحديث واسعة. وكان الضغط يتزايد على سيلاسي، إذ كان الإيطاليون يسرّعون تحديث الأقاليم الساحلية التي يحكمونها، ويهدّدون دولة الحاكم الفتيّ.
انبثق مشروع إيغوالِه الفلسفي من هذا المشهد التاريخي المألوف: حضارةٌ عريقة تمتدّ لأكثر من ألف عام تواجه إمبراطورياتٍ أوروبيةً تتمدّد بعدوانية. وبعد أن قاسى الاحتلال الإيطالي المؤلم (1936–1941)، وشهد استعادة إثيوبيا لسيادتها، ورأى تسارع برامج التحديث في عهد هيلا سيلاسي، كرّس حياته الفكرية لصوغ منظومة فلسفية متجذّرة في نمطٍ إثيوبيٍّ مميّز من التفكير. بذلك واجه تحدّيات عصره الفكرية، وأصبح شخصيةً محورية في معركة الاستقلال الفكري.
في كتاباته، شرح إيغوالِه الفكرة الأساسية لمشروعه كلّه عبر توصيف التجربة الإنسانية الجوهرية. تصوّر الفلسفة شجرةً ذات فرعين رئيسين: الفرع الأول هو عالم الطبيعة (yäsene friṭret ālem)، والفرع الثاني هو عالم التاريخ/الحضارة (yewes siltane ālem (yä-tarik . وذهب إلى أن نقطة التقاء هذين العالمين هي موضع الإنسان.
كان يؤمن بأن الإنسان "كائنٌ وسيط" (amākay friṭret) يقف بين هذين المجالين: فبجسده ينتمي إلى عالم الطبيعة، وبروحه يشارك في عالمٍ أبديٍّ مجرّد. لذلك يتعيّن على الإنسان أن يسير وفق قانونين: "قانون الالتزام" (ye-gide-ta ḥig) في الطبيعة، و"قانون الحرية" (ye-nētsanēt ḥig) في المجال الروحي.
ورأى الدكتور إيغوالِه أن عمله ضربٌ غير مألوف من الفلسفة. فقد أكّد أن "طبيعة التعليم وغايته لا يمكن تحديدهما في فراغ"، وأن المعرفة الحقيقية تستلزم "بحثًا فلسفيًا عميقًا". وأشار إلى أن الإخفاق في ذلك لا يعدو كونه "لعبًا على شاطئ البحر"، بينما دعا إلى الغوص في "بحر الأفكار" بـ«ذراعٍ عقليةٍ قوية».
ولفهم «الفخ» الذي نبّه إليه، دعا إلى مقارنة اللغة والفوارق الفلسفية بين الفكر الغربي والرؤية الإثيوبية للعالم.
في الثقافة الفكرية الغربية، كثيرًا ما يقوم تمييزٌ حادّ بين "الثقافة" و"الحضارة". فالثقافة تُفهَم عادةً بوصفها نمطَ عيشٍ أصيلا ومحليا وموروثا مرتبطًا بشعبٍ من الشعوب. أمّا الحضارة فتُعدّ، على النقيض، حالةً كونيةً ليبراليةً متقدّمة تقع خارج ما يُسمّى ثقافة «بدائية»، وغالبًا ما لا تُنال إلا بالتخلّي عنها. وهكذا صيغ خيارٌ قسري: كي تكون «متحضّرًا» عليك أن تضحّي بـ«ثقافتك».
وبالمقارنة، يحمل المصطلح الأمهرِي "selṭané"(ሥልጣኔ) دلالةً مختلفة. فعلى الرغم من ترجمته كثيرًا إلى «حضارة»، فإنه لا يُحيل إلى حالة تُدرَك بترك الثقافة، بل يشير إلى نمط وجودٍ ينمو من ثقافة الشعب ويعبّر عنها.
وقد أدرك إيغوالِه أن هذا التقابل زائف. فـ"selṭané"، في هذه المقارنة ذاتها، لا يدلّ على ضغطٍ ماديٍّ خارجي، بل يشي بارتقاءٍ داخلي وطبيعي وروحي. ولم يكن الهدف عنده استيراد «حضارة» غربية وطرح «ثقافة» إثيوبية، بل صوغ "سِلṭاني" إثيوبي أصيل عبر امتزاجٍ كثيفٍ للأفكار.
في كتابه «روح ومنهج التعليم العالي»، يوضّح إيغوالِه مسوّغ هذا التصوّر المحلي "للسِّلṭاني" عبر رسم ملامح الحالة الإنسانية الأساسية. يقترح أن الحالة الأولى» للأفراد هي العبودية» (barinet)، ومنها يتولّد شوقٌ طبيعيٌّ عارم إلى الحرية. وهذه العبودية ليست اجتماعيةً أو اقتصاديةً فحسب، بل لها طابعٌ مزدوج مباشر.
أولها العبودية الداخلية: عبودية الجهل العميق (denkurna) التي يُحجَب فيها الضمير الداخلي (ḥilina) - وهو مركز إنسانية المرء - عن صاحبه. في هذه الحال لا يهتدي الأفراد بالمعرفة، بل بأساطير يصطنعونها (teretoch)، فيحيون بالدوافع الأولية اللاواعية ذاتها التي تحرّك الحيوان.
يحمل المصطلح الأمهرِي "selṭané"(ሥልጣኔ) دلالةً مختلفة. فعلى الرغم من ترجمته كثيرًا إلى «حضارة»، فإنه لا يُحيل إلى حالة تُدرَك بترك الثقافة، بل يشير إلى نمط وجودٍ ينمو من ثقافة الشعب ويعبّر عنها
ويضرب مثالًا مأساويًا بأناسٍ يضحّون بالأطفال لاسترضاء «تنينٍ متخيَّل» عند خسوف القمر، شاهدًا على هذا الرقّ الداخلي العميق؛ وهو ما لخّصه داود الملك بقوله: "الإنسانُ في كرامةٍ ولا يفهم".
والثانية العبودية الخارجية: خضوع البشر المادي لقوانين الطبيعة القاسية. فلقرونٍ طويلة، وبسبب افتقارهم إلى أدواتٍ تكفيهم بردًا وحرًّا وجوعًا ومرضًا، ظلّ البشر "كرةً يتلاعب بها" محيطهم، يعيشون حياة "من البؤس والحسرة والعذاب". وبرأي إيغوالِه لا تُنال الحرية الحقّة (selṭané) إلا بتخطّي هاتين العبوديتين معًا.
الحضارة/التمدن "selṭané" (ሥልጣኔ)، الحقيقي ليس مجردَ تحصيل أدواتٍ ماديةٍ لمقاومة الرقّ الخارجي؛ بل هو، قبل كل شيء، تحريرُ العقل من الرقّ الداخلي. وقد كانت هذه البصيرة الفلسفية هي الأساس الذي أقام عليه مشروعه الجامع للأفكار. ورأى أنها السبيل الوحيد إلى حداثةٍ مكتملةٍ أصيلة - تُعتق الجسد من تقلبات الطبيعة، والعقل من الجهل.
واتّسع نقدُه ليشمل العلماء الإثيوبيين أنفسهم، لا القوى الخارجية للحداثة فحسب. فقد لاحظ أن كثيرًا من أعلام البلاد (liqawnt) قصّروا عن أداء واجبهم الفكري الأصيل: تقاسم المعرفة مع الآخرين ومع الأجيال المقبلة.
كان يرى أن الوظيفة الروحية (yemenfes tegbaru) للإنسان تواصليةٌ في جوهرها. وكتب: "للروح الإنسانية مجالا عمل: الأوّل الذات، والثاني النظير". وهذه عمليّةٌ فاعلة: تعمل الروح أولًا على ذاتها لإدراك حياتها الداخلية (wusṭawi ḥiywot)، ثم لا بدّ أن تُعبّر عن هذا العمل الداخلي قولًا وكتابةً كي تتّصل بالآخرين، وتدعوهم إلى مشاركتها اكتشافاتها. وقد سمّى ذلك "القانون الرئيس الواحد" لنشاط الروح؛ وهو قانونٌ يُعرف في الغرب باسم الديالكتيك، وهو مصطلح استقاه من الفيلسوف الألماني هيغل.
وشدّد على أن الروح الإنسانية لا تكون أبدًا وحيدة؛ فهي إمّا لا تكون، وإمّا أن تكون في حوارٍ دائم مع الآخرين. وقد شكّل هذا الإدراك القوي حلقةً حيويةً في نسقه الفكري.
لم يكن إيغوالِه مؤرخًا أو ناقدًا ثقافيًا وحسب، بل فيلسوفًا يقترح طريقًا إلى الأمام. فمن خلال الربط الصريح بين الوظيفة الروحية للمثقّف والديالكتيك الهيغلي، قدّم مسارًا واضحًا أمام المجتمع ليفكّ أسره الداخلي ويبلغ selṭané. وكان النقاش الجماعي - تبادل الأفكار وتفاعل «الأطروحة» و«النقيض» - في نظره الوسيلة الوحيدة لإنتاج معرفةٍ مشتركةٍ صلبةٍ مُجرَّبة.
"السِّلṭاني" الحقيقي ليس مجردَ تحصيل أدواتٍ ماديةٍ لمقاومة الرقّ الخارجي؛ بل هو، قبل كل شيء، تحريرُ العقل من الرقّ الداخلي
ومن دون هذه العملية الجدلية تبقى المعرفة خاصّةً غير ممحَّصة، غير مختبرةٍ على الواقع، ويظلّ المجتمع غارقًا في ركودٍ والتباسٍ لا ينتهيان. وكان دقيقًا في ما ينبغي على المثقفين الإثيوبيين فعله: دراسة الحضارتين الأوروبية والإثيوبية بعمق، وتقدير «ثرائهما وفرادتهما».
وقد جاءت رؤيته استجابةً مباشرة تفكيكيّةً للاستعمار لقوى الحداثة. وتبلورت ثنائيته غير الجوهريّة في فكرةٍ فلسفيّةٍ عميقة: «በተዋሕዶ ከበረ» (bete-wāḥedo keb-ere) ؛ أي "التمجيد بالتوحيد/التركيب". وهذه الفكرة ترفض الثنائية الجوهريّة في الغرب - أي التقابل الحاد بين «الحديث» و«التقليدي».
وكان دقيقًا كذلك في التنبيه إلى أنه ينبغي دراسة الحضارتين بعمق وتقدير، وفحص غنى كلٍّ منهما وتفرّده. وأكّد على أنه لا يمكننا أن نستبدل إحداهما بالأخرى أو نخلط هاتين الحضارتين معًا. وكانت براعة إيغوالِه في إدراك أن الطريق إلى الأمام ليس المحاكاة ولا المزج السطحي، بل تركيبٌ متأنٍّ مقصود بين العقل والروح. وقد استند إلى مبدأ التوَحُّد (tewaḥedo) - الذي يدلّ لاهوتيًا على اتحاد الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة في المسيح - ورفعه إلى مستوى التجدّد الوطني. كان ذلك اختيارًا واعيًا معلَّلًا، لا محاكاةً ثقافيّةً سلبية.
وبينما ظلّ مفهوم الصلح/المصالحة (irq) في المجتمع الإثيوبي تاريخيًا أسلوبًا لا انعكاسيًا لحلّ النزاعات الاجتماعيّة، تمثّلت عبقريته في تحويل هذا المفهوم وتأصيله فلسفةً، رافعًا حكمةً ثقافيّةً معروفةً إلى مستوى أعمق. وكان يؤمن أنّه من هذا الالتقاء بين الأفكار يمكن أن تنهض لإثيوبيا حداثةٌ جديدة إثيوبيةٌ حقًّا.
وكان معنى "التمجيد بالتركيب" ابتكارَ حيّزٍ مُستجدّ، تتّحد فيه القوى المتعارضة وتتجانس. ولم تكن أنماط التفكير الغربيّة والإثيوبيّة، عنده، «تناقضًا هدّامًا»، بل "توترًا ديناميًا" يُصهَر فيه اتحادٌ أفضل وأقوى.
وكان يؤمن أنّه من هذا الالتقاء بين الأفكار يمكن أن تنهض لإثيوبيا حداثةٌ جديدة إثيوبيةٌ حقًّا. ومن خلال "تعليمٍ متوازن" تصوّر حلولًا لمشكلات البلاد - وهو نهجٌ يطبّق هذا المبدأ بوضوح.
ورأى أن النموذج الغربي للتعليم كان له "أثر اقتلاع" و"وقع مُغرِّب"، إذ يُنتج أفرادًا "ممسوحة" أو "موسومة" بطابع التغرّب. وكان من المأساوي، في رأيه، أن تتحوّل الجامعة - المفترض أن تكون مؤسّسةً مُوحِّدة - إلى مؤسّسةٍ تُعمّق الانقسامات الطبقية، وأن يغترب الطلاب فيها عن تاريخهم وثقافتهم، فيتعاملون معهما عوائقَ بدل أن يعدّوهما أسسًا للبناء.
وقد مثّل مشروعه الفلسفي ذروة كفاحٍ طويلٍ خاضته إثيوبيا مع أفكار الحداثة. ولعلّ الإمبراطور تيودروس الثاني (1855–1868) كان أول حاكمٍ إثيوبيّ يسعى إلى المعرفة الحديثة سعيًا نشطًا - لا لعمقها الفكري، بل لفائدتها العملية في تقوية الدولة والدفاع عنها. وباستقدامه عمّالًا مهرةً ومهندسين، أظهر أنّه يدرك أن "المعرفة قوّة"، غير أنّ تركيزه ظلّ عسكريًا وسياسيًا لا فلسفيًا.
الحضارة/التمدن "selṭané" (ሥልጣኔ)، الحقيقي ليس مجردَ تحصيل أدواتٍ ماديةٍ لمقاومة الرقّ الخارجي؛ بل هو، قبل كل شيء، تحريرُ العقل من الرقّ الداخلي
ثم اتّبع الإمبراطور منليك الثاني (1889–1913) هذا النهج العملي بتأسيس مؤسساتٍ مثل: أول مدرسة حديثة (مدرسة منليك الثاني) وأول مستشفى. وكان هدفه استخدام المعرفة والبنى التحتيّة الغربيّة لبناء دولةٍ قويّة. وقد وضع ذلك الأساس للنموّ الفكري، لكنه لم يواجه بعدُ التحدّي الفلسفي لدمج رؤيتين كونيّتين مختلفتين.
أما الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول (1930–1974) فقد واجه هذه التوترات مباشرةً؛ فلم يوسّع النظام التعليمي الحديث فحسب، بل ثبّته أيضًا، مُنشئًا ما صار يُعرف لاحقًا - على ألسنة منتقديه - بـ"عقليّة ستّة كيلو". وعلى الرغم من حديثه عن وصل التقليد بالحداثة، فإن النظام الذي بناه عزّز، بالمفارقة، قطيعةً صارخة.
لقد عمل النظام التعليمي أداةً انضباطيةً فوكويّة، صُمّم لإنتاج نخبةٍ مُغرَّبة تقود مجتمعًا متغيّرًا. وبذلك تعمّقت الهوّة التي سعى إيغوالِه إلى رأبها.
وعلى هذه الخلفيّة، يتّضح اختيار إيغوالِه كارل ياسبرز بدلًا من مارتن هايدغر. فقد كان ياسبرز فيلسوفًا يتبنّى التساؤل المفتوح، ويعترف بحدود المعرفة الإنسانيّة، ويُلِحّ على ضرورة المراجعة النقديّة الدائمة. وقد انسجم قوله المشهور –"التعليم روحٌ تُوقظ روحًا" - مع يقين مدرسة القِنِّه (Qiné) بأن قيمة التساؤل تعلو على مجرّد التفكير. وفي ياسبرز وجد إيغوالِه نمطًا قرينًا من الفكر: فلسفةً تُثمّن الاستفهام على القبول السلبي، وتمنح سبيلًا للانخراط مع عالمٍ متغيّر من دون أن يفقد المرء نفسَه فيه.
في هذا المعنى، شابهَ إيغوالِه مفكّرين ما بعد كولونياليين آخرين مثل: العلامة محمد إقبال الذين واجهوا تحدّياتٍ مماثلة. وقد استند كلاهما إلى موارد ثقافته الأصيلة لمقاومة الاغتراب. كانت دعوة إقبال إلى تنمية الخُودي - الذات المتجذّرة في وعيٍ أعلى - احتجاجًا على تعليمٍ «يبخس الروح» بسبب فرط التأكيد المادي. وعلى النهج ذاته، حضّ عملُ إيغوالِه إثيوبيا على مقاومة تفتيت الهوية والمعرفة، والدفع نحو تركيبٍ حيّ للتقاليد.
في المحصّلة، يكمن إرثُ إيغوالِه جبري يوهانس الباقي في دوره مفكّرًا مفصليًا حبك بين التقليد والحداثة. ولم تكن فلسفته في التعليم شأنًا أكاديميًا محضًا، بل جهدًا وطنيًا مخلصًا لصوغ إثيوبيا حديثةٍ قويّة فكريًا ومتجذّرة ثقافيًا.
ويذكّرنا عملُ حياته - الذي جرى تكريمه بإطلاق اسمه على مبنى جامعي - بالصلات غير المرئية بين الماضي والحاضر. مَن يُهمل هذه الصلات اليوم؟ نحن نفعل، كلّما افترضنا أن الأفكار الجديدة لا بدّ أن تأتي من الخارج بدلًا من التقاليد الغنيّة المتسائلة في تاريخنا. والاعتراف بها احترامٌ لحكمة رؤيته، وإقرارٌ بأن السعي إلى فهمٍ حقيقيٍّ مكتملٍ وعادل ما يزال مستمرًّا.